الاستقطاب التام أو الموت الزؤام

- ‎فيمقالات

كان الشعار الأبرز لثورة 1919 في مصر، بقيادة الزعيم سعد زغلول، هو “الاستقلال التام أو الموت الزؤام” (أي الموت السريع)، وعقب ثورة يناير 2011، التي توحد ثوارها خلال 18 يوم على شعارات العيش والحرية والعدالة، تبنت الكثير من الحركات والجماعات السياسية والثورية في مصر فكرة “الاستقطاب التام أو الموت الزؤام” دون أن تعلنه رسميا، لكنه كان واقعا عمليا، وفي ظل تلك الأجواء من الاستقطاب التام، الذي بلغ ذروته الأولى خلال معركة التعديلات الدستورية في آذار/ مارس 2011 بين المؤيدين والمعارضين لتلك التعديلات، وجدت الثورة المضادة فرصتها الذهبية لتبدأ مبكرا تسديد ضرباتها لثورة يناير، من خلال إذكاء حالة الاستقطاب بين شركاء الثورة الذين تهدمت جسور الثقة بينهم، والتي تم بناؤها على مدى عقود سالقة، وتم ترسيخها خلال أيام الثورة الثمانية عشر في ميدان التحرير وغيره من الميادين. وظلت حالة الاستقطاب قائمة طوال حكم المجلس العسكري ومن بعده، خلال سنة حكم الرئيس مرسي، وانتهت بانتصار الثورة المضادة في جولة 30 حزيران/ يونيو 3 تموز/ يوليو 2013.

أدرك عسكر 3 يوليو 2013 أن سر نجاح مؤامرتهم هو حالة الاستقطاب تلك التي مكنتهم من تأليب قوى الثورة ضد بعضها، وتأكدوا من أن استمرار هيمنتهم يحتاج إلى المزيد من الاستقطاب والشرخ المجتمعي، استلهاما للمبدأ الاستعماري “فرق تسد”، ومن هنا وضعت تلك السلطة الجديدة خططا شيطانية لتصنيف المصريين بين أخيار وأشرار، وتقسيمهم إلى شعبين “انتو شعب واحنا شعب”. وظل قائد الانقلاب حريصا على توجيه خطابه إلى فئة واحدة من المصريين ومنحهم صك الوطنية، بينما نزعه عن باقي الشعب المصنف “أشرارا”، وانطلت الخدعة على الكثيرين، وشاركوا فيها بالفعل، ووصل الأمر ببعض المنتمين لثورة يناير إلى المطالبة بفض اعتصام رابعة بزعم أنه يشل المنطقة، ويعطل عجلة الإنتاج، وهي الاتهامات ذاتها التي كانت توجه للمعتصميين من قبل في ميدان التحرير وغيره من الميادين إبان أيام الثورة. وشارك الكثيرون في جمعة التفويض التي استغلها السيسي لفض الاعتصام بالقوة، كما رقص بعضهم على جثث شهداء رابعة بحسبانهم من الأشرار، ناسين أنهم إخوتهم في الوطن، وجيرانهم في البيت والشارع والعمل. وفي المقابل، أطلق الكثيرون من أنصار الشرعية مصطلح “عبيد البيادة” على الكثير من الفئات الشعبية الداعمون في ذاكرتهم صورة سلبية عن خيانة تلك الفئات الشعبية للثورة ولدماء الشهداء، ولمن هبوا للدفاع عنهم وعن إراداتهم المغتصبة. وفي المحصلة، تعمق الانقسام المجتمعي حتى وصل إلى العصب بين الابن وأبيه، والزوج وزوجته، والأخ وأخيه، وبين الأصدقاء والزملاء والجيران. ومرة أخرى، اسستغل النظام الانقلابي الحاكم هذه الحالة لتكريس هيمنته، وتصفية رافضي الانقلاب وملاحقتهم، قتلا واعتقالا وفصلا وتشريدا، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، وتمرير سياساته القاتلة، سواء برفع الأسعار وإلغاء الدعم، أو السيطرة العسكرية على الاقتصاد، أو غلق المجال العام رويدا رويدا. ولم يعد النظام يقصر قمعه على رافضي الانقلاب، بل أصبح يطال مؤيديه الذين ظلوا حتى وقت قريب يدعمونه، ويقفون إلى جانبه كتفا بكتف في مواجهة مناهضيه. ووصل الأمر إلى منع أي مرشح منافس حقيقي للسيسي في الانتخابات، وحبس وعزل قادة معارضين كبار عسكريين ومدنيين، مثل سامي عنان، وعبد المنعم أبو الفتوح، وهشام جنينة، ومعصوم مرزوق، ويحيي القزاز، وحازم عبد العظيم، وهم من أبرز قادة 30 حزيران/ يونيو. وتم تأميم الاعلام، وحجب مئات المواقع وحبس عشرات الصحفيين، وسن تشريعات تقضي على البقية المتبقية من هوامش متدنية بالأساس.

يحرص النظام وأذرعه الإعلامية على استمرار حالة الاستقطاب، والانقسام المجتمعي وتغذيتها، حتى يتسنى له البقاء والاستمرار. وخلال سنوات حكم هذه السلطة تجمعت حولها مجموعات مصالح يرتبط مصيرهما معا، وبالتالي تبذل هذه المجموعات، سواء من رجال إعلام أو أعمال أو فن وثقافة أو عشوائيات سياسية، كل جهدها للإبقاء على حالة الانقسام المجتمعي، ومواجهة أي دعوة لترميم وحدة المجتمع، وأي حديث عن مصالحة وطنية أو مجتمعية؛ لأن هذه المجموعات المصلحية تدرك أنها ستفقد امتيازاتها في ظل أي نظام حكم ديمقراطي شفاف.

وإذا كانت تحركات السلطة الانقلابية لتقسيم المجتمع مفهومة، فإن غير المفهوم أن مجموعات تنتمي للقوى المناهضة والمعارضة لنظام السيسي حريصة أيضا على استمرار حالة الانقسام والاستقطاب أيضا. وتبذل هذه المجموعات جهدا كبرا للحفاظ على الحالة التي صنعتها سلطة الانقلاب، بدعاوى “الطهر الثوري”، والأغرب أن هذه المجموعات لا تنفث طاقتها السلبية تلك في وجه سلطة الانقلاب؛ بقدر ما تنفثها في وجوه قوى سياسية أخرى كانت داعمة للانقلاب ثم أصبحت معارضة له، كما أن القوى التي تحولت من دعم الانقلاب إلى معارضته لا تزال تحافظ على منسوب ضغينتها ضد أنصار الشرعية، ويرفض العديد من رموزها التعاون والعمل المشترك للخلاص من نظام السيسي.

هذه الصورة ليست حالة عامة، حيث توجد في المقابل رموز مناهضة ورافضة لنظام السيسي إسلامية أو ليبرالية او يسارية راغبة في التعاون، وقابلة للحوار وتجاوز مرارات الماضي. لكن وجود بعض المجموعات، ولو كانت صغيرة على الطرفين، يزكي نار الفتنة والاتقسام بينهما، وهو بالتأكيد أمر مزعج، وقادر على إفشال جهود التقارب بين التيارات السياسية، وجهود المصالحة المجتمعية. وواجب القوى الرئيسية والعاقلة في كل التيارات مواجهة هذه المجموعات المتطرفة، حتى يمكن رص الصفوف في مواجهة النظام القاتل للشعب، والخائن للوطن، وليدرك الجميع أنه لن ينتصر شعب منقسم على سلطة مستبدة.
==========
نقلا عن “عربي 21”

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها