“البدون المصريون”.. هل تتحقق مصلحة الوطن بسحب الجنسية؟

- ‎فيتقارير

وسط تهليل إعلامي لا يمت للعقل والمنطق بصلة، تضع سلطات الانقلاب العسكري أعدادا لا حصر لها من المصريين الذين يرفضون الانقلاب العسكري أو يرفضون سياساته القمعية أو الفاشلة اقتصاديا أو اجتماعيا، أمام خيارين إما العمل على إضرار الوطن بالفعل انتقاما منه بعد سحب الجنسية منه، أو التفكير في الهروب الكبير من مصر التي باتت سجنا للجميع.

في الأيام الماضية وبعد انتهاء مسرحية الانتخابات التي فضحت نظام العسكر انبرى الانقلاب العسكري في تسريع عجلة القوانين التي لا تراعي قيمة أو عقل، ومنها الاستعداد لمناقشة قانون سحب الجنسية من المعارضين لنظام الانقلاب… متناسين انهم في يوم من الايام قد يتعرضون لنفس الامر حال سقوط انقلابهم وتفسخ نظامهم الفاشي، الذي لا محال واقع، وسيقدمون أمام محاكم حقيقية للاقتصاص منهم بنفس السلاح الذي حاربوا به الشعب المصري، أو يعاقبوا بالضرب باحذية المصريين، الذين أذاقوهم الجوع والخوف والمرض.

عنصرية وإقصاء

ويعتبر مشروع قانون سحب الجنسية، الذي سنتقشه برلمان العسكر قريبا- انعكاسا لأبشع صور العنصرية والإقصاء، فبعد الانقلاب الدموي الفاشي على المسار الديمقراطي وثورة 25 يناير، وقتل آلاف المصريين قنصا في المياديين والشوارع واعتقال عشرات الآلاف على رأسهم الرئيس المختطف في سجون العسكر الدكتور محمد مرسي، بتهم ملفقة، يواصل نظام العسكر فاشيته المفرطة بممارسة الإقصاء الوطني، فلا وطنية إلا لطباليه والمسبحين بحمده.

ومشروع القانون المعروض حاليا على مجلس نواب العسكر يتضمن أنه “يجوز سحب الجنسية من كل من اكتسبها بالتجنس أو بالزواج وذلك خلال السنوات الخمس التالية لاكتسابه إياها، وذلك في حالة إذا حكم عليه في مصر بعقوبة جناية أو بعقوبة مقيدة للحرية في جريمة مخلة بالشرف أو إذا حكم عليه قضائيا في جريمة من الجرائم المضرة بأمن الدولة من جهة الخارج أو من جهة الداخل، أو إذا كان قد انقطع عن الإقامة في مصر مدة سنتين متتاليتين وكان ذلك الانقطاع بلا عذر يقبله وزير الداخلية”. وكذلك إذا كانت إقامته العادية في الخارج وصدر حكم بإدانته في جناية من الجنايات المضرة بأمن الدولة من جهة الخارج، إذا كانت إقامته العادية في الخارج وانضم إلى هيئة أجنبية من أغراضها العمل على تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي للدولة بالقوة أو بأية وسيلة من الوسائل غير المشروعة.

وهو نص فضفاض يسمح للنظام بسحب الجنسية من أي شخص خصوصا مع تسيس القضاء وصدور أحكام هزلية بناء على تحريات أمنية دون استناد لأي دليل مادي. الأمر الآخر هو أن رفض نظام عسكر 30 يونيو إنما يمثل موقفا سياسيا بإمتياز يرى في النظام القائم خطرا على الأمن القومي لمصر وخطرا على مستقبلها ومستقبل شعبها.

قانون سياسي

ويعبر مشروع القانون عن انهيار أخلاقي كبير في النظام السلطوي الذي يلجأ إلي استخدام سلاح إسقاط الجنسية عن عدد غير محدود من المواطنين لاتهامهم في قضايا ذات طابع سياسي في المقام الأول، ومن دون اشتراط أن يكونوا قد اكتسبوا جنسية أخرى، أو حاربوا الدولة المصرية لحساب دولة أخرى. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى ظهور فئة غير المجنسين أو “البدون”، كما يطلق عليهم في الخليج، لأول مرة في مصر.

البداية عند مصطفى بكري

هذا المشروع كان مقدماً بالأساس من النائب المقرب من المخابرات الحربية مصطفى بكري، كجزء من التصعيد الأمني ضد “الإخوان المسلمين” وغيرهم من مجموعات التيار الإسلامي، عقب حادث تفجير الكنيسة البطرسية في ديسمبر 2016. إلّا أن وزير الشئون النيابية في ذلك الوقت مجدي العجاتي، أكد عدم دستورية المقترح لتعارضه مع نص الدستور الحالي، ورفض مناقشته في لجنة الشئون التشريعية بمجلس النواب. ثم وافق مجلس الوزراء يوم الخميس 20 سبتمبر الماضي على مشروع قانون أعده وزير العدل حسام عبدالرحيم، يسمح لمجلس الوزراء بإسقاط الجنسية عن المصري المتمتع بها وحدها أو مع جنسية أخرى “في حالة صدور حكم قضائي يثبت الانضمام إلى أي جماعة، أو جمعية، أو جهة، أو منظمة، أو عصابة، أو أي كيان، أياً كانت طبيعته أو شكله القانوني أو الفعلي، سواء كان مقرها داخل البلاد أو خارجها، وتهدف إلى المساس بالنظام العام للدولة، أو تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي لها بالقوة، أو بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة”.

عيوب قانونية فاضحة

ويُلاحظ من صياغة المشروع أنه لا يوقع قرار إسقاط الجنسية كعقوبة تكميلية للأحكام القضائية الصادرة بالإدانة في قضايا الإرهاب أو العنف أو الاغتيال أو التخابر، بل إنه يتحدث عن الانضمام إلى الجماعات والجمعيات والهيئات في الداخل والخارج. وهذا يعني عدم ضرورة حدوث اعتداءات إرهابية أو أعمال عنف أو أي فعل مادي من الأساس، لتصبح الحكومة قادرة على إسقاط الجنسية عن بعض مواطنيها.

ويكفي بالتالي أن تصدر محكمة ما، أياً تكن درجتها القضائية، نصاً في صورة حكم قضائي يثبت صفة “الانضمام” على الشخص المرغوب في إسقاط جنسيته. وحتى لا يكون أمامهم الفرصة للطعن على حكم الإدانة وكذلك العقوبة التكميلية بإسقاط الجنسية أمام محكمة النقض؛ استقر الرأي بعد استشارة عدد من قضاة النقض ومجلس الدولة على نقل هذه السلطة إلى مجلس الوزراء، باعتبارها سلطة تقديرية يراقبها القضاء، وفي الوقت نفسه تملك الحكومة بموجبها أن تسقط الجنسية عن المدانين بحكم نافذ أو حكم بات، حسب الرغبة.

وقد وافق قسم التشريع بمجلس الدولة في 18 ديسمبر على مشروع مجلس الوزراء، والذي نص على سحب الجنسية “حال صدور حكم قضائي يثبت انضمام حامل الجنسية إلى أي جماعة أو جمعية أو جهة أو منظمة أو عصابة أو كيان يهدف إلى المساس بالنظام العام للدولة أو تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي لها بالقوة أو بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة” وليس فقط الأحكام التي تثبت الانتماء لجماعة إرهابية. كما تضمن المشروع أيضاً، زيادة المدة التي يجوز خلالها سحب الجنسية المصرية من الأجنبي الذي اكتسبها، لتكون خلال 10 سنوات بدلاً من 5 سنوات، إذا حكم عليه في مصر بحكم قضائي بات بعقوبة جنائية أو بعقوبة مقيدة للحرية في جريمة مخله بالشرف أو بجريمة مضرة بأمن الدولة من جهة خارجية أو داخلية، أو انقطاعه عن الإقامة في مصر بدون عذر يقبله وزير الداخلية.

وقد صار الطريق مفتوحاً أمام البرلمان لاقرار القانون الذي ينتهك كل القيم والحقوق كوسيلة لعقاب ذوي الانتماء الوطني الأصيل علي قيامهم بواجبهم الوطني في المعارضة ومقاومة الظلم.

علاقة إنسانية أبدية

وتناسى الانقلابيون في مشروعهم الزائف لسحب الجنسية من المعارضين، أن علاقة المواطن بوطنه هي علاقة وجدانية وانسانية تغرس جذورها في عمق التاريخ والثقافة والقيم والهوية والانتماء، وهذه الجذور العميقة لقضية الوطنية والانتماء تعلو علي التحزب السياسي والصراعات علي السلطة، أما النظم المشكوك في ولائها – أو ذات الانتماء السطحي الفارغ المضمون والتي تعاني من نقص الشرعية وهشاشة الانتماء والارتباط الشعوري والوجداني الحقيقي – فإنها تسعي لافتعال واختلاق صيغ من الانتماء الشكلي والهوية المصطنعة القائمة علي المبالغة بالتغني بالوطنية بينما هي تخرب الوطن وتفكك المجتمع وتبيع الأرض والعرض. ونظراً لادراك نخب النظام لزيف الأغاني والشعارات وعدم قناعة المجتمع والأمة بالمشاعر المصطنعة فإنها تلجأ إلي استهداف ذوي الانتماء والحس الوطني المستند إلي عمق ديني وثقافي وقيمي أصيل، فهذه الجماعات والقوي شديدة الانتماء والحب للوطن تفضح زيف شعاراتهم وتبلد مشاعرهم، فحبها للوطن ودفاعها عن الهوية وخوفها علي المجتمع يدفعها لمقارعة الظلم والاستبداد والطغيان. وهنا يكتشف أصحاب الشعارات الجوفاء من النخب التي تسيطر علي السلطة والمال عجزهم عن اقناع المجتمع وقواه الحية بأنهم يمثلون المصالح العامة والعليا للوطن فلا يكون أمامهم سوي القمع ونزع الوطنية عن المعارضة والقوي الحية الأكثر ولاءً وانتماء وتضحية في سبيل الدين والوطن والعرض والأهل.