الثورات الطاهرة لا تموت

- ‎فيمقالات

راقبت حوارًا حادًّا بين صديقين حول الثورة. قال أحدهما للآخر: «الثورة خلاص ماتت!» قال الآخر: «الثورات الطاهرة لا تموت، إنما تبقى فى نفوس الأحرار، وتكبر وتنضج إلى أن تحقق أهدافها»..

– قال الأول: لقد خذلها الشعب الذى تربى على العبودية والولاء للمستبدين.

– قال الآخر: الشعب خرج بالملايين ضد هذا الاستبداد، فى ملحمة قلما تجدها فى ثورة من الثورات، ولم يقعدوا عن الخروج إلا بعد أن بان لهم حجم المؤامرة وقذارتها وكثرة المشاركين فيها.

– قال الأول: الواقع يقول إن الخصم مسيطر وحسم الأمر لنفسه.

– قال الآخر: ذلك وهمٌ، كالبلطجى يظن أن الغلبة له ولا يدرك أن القلوب تلعنه والسيوف تنتظر وقوعه، ولا ينجيه إلا قوة يتسلح بها ولو غفل عنها لحظة لهلك.

قلت: أما الأول فينقصه الفهم، وينقصه الصبر والثبات فإنه جزع لتفوق الخصم ولا يدرك أن الصراع جولات، وأن المؤمن ثابت صامدليس هلوعًا ولا جزوعًا ولا تغره كثرة الخبيث، وفى فقه الثورات أن المبادئ لا تموت، كما لم تسلم ثورة واحدة من المكائد، ولم تنجح إحداها من أول جولة، بل لها دورة حياة مثل الكائن الحى، فهى ما بين قوة وضعف لكنها لا تخمد حتى تحقق أهدافها.

إن الثورات الطاهرة لا تموت؛ لأنها والحق سواء، وهل سمعنا فى الأولين والآخرين أن الحق مات؟ قد يُغلب ويتعثر لكنه يعالج ذاته وينقلب فتيًّا أقوى مما كان فتكون له الغلبة، ويصير أتباعه هم الأئمة المنصورين (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[القصص: 5]، كما لم يقم مبدأ أو معتقد على الكثرة، بل الأصل فى أتباعه أن يكونوا قلة، لكنها القلة العظيمة المخلصة، ممن لا يبدلون ولا يغيرون، ولا يُفتنون ولا يُخدعون، ولا يبيعون ولا يفرطون إنما يبذلون الغالى والرخيص، والنفس والمال، طائعين مختارين؛ لما اعتقدوا من صحة الطريق وسلامة المعتقد (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا)[الأحزاب: 23].

فمن ظنَّ أن ثورتنا ماتت فقد أخطأ، بل هى فى النفوس لم تغادرها، تكبر داخل هذه النفوس الأبية، وتنمو وتترعرع ويزيد أتباعها يومًا بعد يوم حتى إذا جاء أجل الله فإنه لا يؤخر، حينها يكون هؤلاء الأتباع قد اشتد عودهم وقويت شوكتهم؛ فلا راد لما قضى الله من إعلاء الحق وإزهاق الباطل؛ فالثورة إذًا يقظة، قلقة لم تنم ولم يهدأ ليلها ولن يهدأ حتى تدمغ الظالم فإذا هو زاهق. وكيف تموت الثورات النبيلة وقد بُذلت لأجلها الدماء والأموال والأعراض، وقد طُورد أبناؤها وأُخرجوا من ديارهم وأبنائهم؟ كيف تموت وقد قامت على الطهر ومحاسن الأخلاق، وقد ساندتها الحجة وأيدها المنطق؟ كيف تموت ومن يعادونها من أسافل القوم وأراذلهم من لا يرقبون فى مؤمن إلًّا ولا ذمة؟!

إنه ما جاء أحدٌ بمثل ما جاءت به الثورات النقية إلا أُوذى، لكن الحق منتصر، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. لقد جاء نوح إلى قومه، نبيًا رسولاً مصلحًا؛ فمكث فيهم قرونًا يدعوهم إلى الهدى والصلاح ولا مجيب، بل ناله الأذى الفظيع حتى أنجاه الله بقدرته، وكذلك إبراهيم الذى آتاه الله الحجة على قومه فلم يجد آذانًا صاغية، بل كوفئ بالحرق فى النار؛ دليلاً على أن الفاسدين يبغونها عوجًا. من أجل ذلك أخرجوا آل لوط من قريتهم بتهمة «الطهارة!!»، وحاولوا قتل نبينا محمد أو اعتقاله، وقد نعتوه لما جاءهم بالحق بأحقر الصفات، والعجيب أنهم كانوا قبل ذلك يلقبونه بـ«الصادق الأمين»…

فهل ماتت دعوات وأفكار ومبادئ هؤلاء المصطفين الأخيار؟ لم تمت -بفضل الله- بل هى باقية أبد الآبدين، أما من مات واندثر فهم من وقفوا فى طريق هذه الدعوات، تلاحقهم اللعنات، وفى الآخرة سوف يُصبُّ من فوق رءوسهم الحميم.

إن من يشكُّ فى انتصار المبادئ النقية والثورات البريئة إنما يشكُّ فى عدل الله ورحمته، وقد استعجل، والله لا يعجل بعجلة أحد، كما لم ينظر -فى الوقت ذاته- إلى حال الخصوم والأعداء؛ فربما تصور أنهم فى نعيم، والحقيقة أنهم فى غمٍّ وكربٍّ ربما فاق ما يعانيه هو؛ فإن وصمة العار لا تزال تلاحق المجرم وتفسد عليه هدوء نفسه حتى يكرهها؛ فإن كرهها عاف الحياة لكنه لا يستطيع الفكاك مما تورط فيه.. وذلك ما يراهن عليه الأوفياء المخلصون؛ أن الزمن عامل حسْم، وهو جندى من جنود الله لا يزال ينخر فى جسد الباطل حتى يخر صريعًا لا حراك له.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها