“الديكتاتور”.. من الاستيلاء على الحكم حتى كلمة النهاية

- ‎فيتقارير

يتساءل كثير من المصريين عن أسرار عزل قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، لشريكه في الانقلاب صدقي صبحي وزير الدفاع السابق المحصن بنص الدستور، ووزير داخلية الانقلاب مجدي عبد الغفار، وكيف استطاع السيسي الانفراد بالحكم بعد تصفية أعضاء المجلس العسكري الذين كانوا يديرون البلاد خلال وبعد حكم المخلوع حسني مبارك.

وبالرغم من إجابة “بوابة الحرية والعدالة” عن هذه الأسئلة في تقرير سابق، استلهمت فيه الإجابة من تاريخ سبعين عاما مضت منذ الانقلاب العسكري على الملك فاروق الذي نفذه ضباط يوليو بقيادة جمال عبد الناصر، وحتى الوقت الحاضر. إلا أن هذا التقرير يستكمل كيف يستبد هذا النظام بالحكم استبداداً مطلقاً ، ويُتَجَاهَلُ فيه الشعب ولا يعبأ فيه بدستور، ولا قانون، ولا عرف، ولا تقليد، ولا دين، ولا خلق، ولا أي اعتبار آخر، والاعتبار الوحيد الذي ينظر إليه، هو وجوده على كرسي الحكم، ليأمر وينهى، ويسن قوانين ويلغي أخرى، دون الرجوع إلى أحد، غير هوى الفرد المستبد.

كيف تصنع ديكتاتورا؟

ولأن هذا الفرد الديكتاتور، يقوم على تجاهل الدولة والشعب، ولأنه ينشئ نظاما دون أن يهتم بإخضاعه للإطار النظامي السائد في المجتمع، فتتحلل منه ومن أية قاعدة ملزمة أو أي قانون أساسي، إلا القانون الذي تقتضيه مصلحته الآنية، وليس من قانون أو قاعدة شرعية وراء هذه المصلحة الآنية، إلا إرادة الدكتاتور التي لا تقيدها أية عملية حقوقية، إن مراسيمه هي العليا، وقراراته مطلقة لا ترد، ولا داعي لديه لأن يبرر عدالتها بالاستناد إلى أية قاعدة اجتماعية.

فالنظام الدكتاتوري يسوق الناس بأمره ونهيه، سوق الراعي لحيوانه، أينما يوجههم يجب أن يتوجهوا، والذي يحله لهم اليوم، له الحق أن يحرمه عليهم غداً، بدون سبب ولا تعليل ولا سؤال، وبدون اختيار منهم، وإنما بإرادته واتباع هواه هو.

ويقفز على كرسي الحكم بالخداع والقوة والمكر والمباغتة، ليس في حاجة إلى اختيار الشعب له بالمباشرة أو بدونها، لأن الشعب ليس أهلاً عنده أن يفكر فيمن يصلح لقيادته أولا يصلح لها، وبهذا يخالف نظام الاستبداد نظام الشورى في الإسلام، ويخالف أيضاً النظام الديمقراطي، وإن كان بين الإسلام والديمقراطية اختلاف كبير، كما مضى.

ولخص الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله الفرق بين الإسلام وغيره من النظامين المذكورين، فقال:
“نستطيع الآن أن نقول بحق: إن النظام الإسلامي يعتبر فقط علاجاً ناجعاً لفشل الديمقراطية، ولكنه صمام الأمن الذي يحمى الأمم من الديكتاتورية، لأن هذا النظام يحفظ لمبدأ الشورى قيمته النظرية، ويحقق صلاحيته العملية، ويجيش كل القوى لخدمة الجماعة، ويدعو إلى الثقة بالشورى والقائمين بأمرها، ويسد الطريق على المبادئ الهدامة والديكتاتورية.

ونستطيع أيضا أن نقول: إن النظام الديمقراطي يقوم في الأصل على الشورى والتعاون، ولكنه انتهى بسوء التطبيق إلى تسليط المحكومين على الحاكمين وانعدام التعاون بينهما.

إلا أن السيسي يعادي هذين النظامين، فتارة يهاجم الإسلام والمسلمين، ويتحدث باسم الإله، ويقول للمصريين : “اسمعوا كلامي أنا فقط ولا تسمعوا لأحد غيري”، وتارة يهاجم الدولة الديمقراطية ويقول: “أنا مش بتاع سياسة”.

ليبرهن على أن النظام الديكتاتوري يقوم في الأصل على السمع والطاعة والثقة بين الحاكمين والمحكومين، ولكنه انتهى بسوء التطبيق إلى تسليط الحاكمين على المحكومين وانعدام الثقة بينهما.

وأكد استبداد السيسي على أن أعظم الأنظمة فسادا، هو النظام الاستبدادي الذي يذل الأمم ويسلبها إرادتها، ويغلق عليها منافذ الحرية كلها، والتفكير في جلب المصالح أو دفع المفاسد، إذْ كلما ارتفع في الأمة صوتٌ حر ينادي بالإصلاح أُسكِت، وكلما برز داعية إلى الخير كُبِت، يتعاظم فيه المستبد ويذل الناس، يدبر شئون البلاد الداخلية والخارجية بمفرده، يجعل الشعب كقطيع من الحيوان، لا حق له في اختيار شيء لم يختره له هو، يصب الظلم على الأمة كلها، وهو وحده لا يجوز لأحد أن ينازعه أو يرفع كلمة حق أمامه، يحل الأمور ويعقدها والأمة تتململ من تصرفه فيها، فلا تقدر أن تنتصر منه، ثم ينشأ مستبد آخر فيعصف بسابقه ويزداد تفنناً في التنكيل بظالمه وبغير ظالمه.

صفات الديكتاتور

من صفات الديكتاتور أنه يظل يكابر وينكر ويتظاهر بالتماسك والقوة حتى اللحظة الأخيرة قبل السقوط.

يمر الزعماء والحكام الديكتاتوريون في دول العالم الثالث بدورة حياة تشبه دورة حياة الحشرات والطفيليات والفيروسات، وتتكون دورة حياة الديكتاتور من ست مراحل متعاقبة، تبدأ بمرحلة التكوين، وهي المرحلة الطويلة التي تسبق وصوله إلى الحكم، ولأن معظم الحكام الديكتاتوريين في العالم الثالث قد وصلوا إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية فغالبا ما يكون الديكتاتور رجلا ذا خلفية عسكرية، وليس شرطا أن يكون جنرالا كبيرا فى الجيش، فبعض الحكام الديكتاتوريين وصلوا إلى الحكم وهم فى سن صغيرة ورتب صغيرة، مثل معمر القذافي، الذي وصل إلى الحكم وهو في السابعة والعشرين من عمره، ومن بعده السيسي أصغر عضو في المجلس العسكري.

والخلفية العسكرية تلك تجعل الديكتاتور، طوال الجزء الأول من حياته العسكرية، لا يعرف شيئا سوى طاعة الأوامر وتنفيذها بدقة وبدون نقاش أو تفكير، وتجعله أيضا طوال الجزء الأخير من حياته العسكرية يصدر هو نفسه الأوامر بدون أن يستشير أحد أو يعارضه أحد، ولذلك تجد أن الديكتاتور الذي تربى وعاش على هذا النحو، بالضرورة، لا يفهم معنى الديمقراطية والتعددية واختلاف الآراء، بل يكرهها ويكره من يطالبون بها، فالإنسان عدو ما يجهل. وقد يتعرض الديكتاتور لبعض المؤثرات السلبية فى طفولته، كأن يشعر بالحرمان مثلا نتيجة الفقر الشديد، وقد يمر بتجارب مؤلمة، كأن يغتصب من بعض زملائه الأكبر سنا فى المدرسة، وتظل تلك الأحداث المؤلمة عالقة فى ذهنه، تشغل تفكيره، وتؤثر فى القرارات التى يتخذها عندما يصل إلى الحكم.

صعود الديكتاتور

والمرحلة الثانية تسمى مرحلة الصعود، وتبدأ بنجاح الديكتاتور فى الوصول إلى السلطة والجلوس على كرسي الحكم منفردا، إما عن طريق انقلاب عسكري مباشر وصريح، بمعنى أن يفاجأ الشعب بخلع الرئيس السابق فى ليلة مظلمة بدون مقدمات تسبقها، أو انقلاب عسكري غير مباشر، بمعنى أن يتم دفع جماهير الشعب إلى القيام بثورة شعبية مفتعلة ومدبرة من الأجهزة المخابراتية ضد الحاكم السابق، تنتهي في غضون أيام معدودة بانقلاب عسكري يبدو فيه الجنرال وكأنه قد استجاب لغضب الجماهير وتطلعاتها إلى الحرية، كما فعل الجنرال أوجستو بينوشيه، ديكتاتور تشيلى السابق، عندما أطاح بالرئيس المدني المنتخب سلفادور ألليندي في انقلاب عسكري عام 1973، بعد سلسلة من الاضطرابات المدبرة.

وفي تلك المرحلة المبكرة يلزم أن يظهر الديكتاتور أمام الشعب في صورة الرجل القريب من الناس، المهموم بمشاكلهم، الحريص على مصالحهم، فيكثر من الأحاديث التليفزيونية الموجهة إلى البسطاء، ويتكلم بهدوء وبصوت ناعم مشحون بالحنان، للتأثير على قلوبهم وعقولهم، وقد يستقبل أحيانا في قصره الجمهورى بعض الفقراء من عامة الشعب أو يزور طفلا مريضا بالسرطان فى المستشفى، ليظهر أمام الرأي العام وكأنه أب طيب وحنون. تلك اللقطات والمشاهد تخلق هالة من الزعامة، وتجعل الجماهير تستجيب لقرارات زعيمهم المحبوب بسهولة، وهنا تلعب أجهزة الإعلام دورا بالغ الأهمية في الترويج لهذه اللقطات المؤثرة والمشاهد المعبرة.

والمرحلة الثالثة تسمى مرحلة التمكين، وهي المرحلة التي يبدأ فيها الديكتاتور في فرض سيطرته على البلاد وترسيخ مكانته كقائد وزعيم للأمة، وفى تلك المرحلة يصعب الإكتفاء بالترويج لشعبية الديكتاتور وسياساته عن طريق المواقف البسيطة واللقطات المؤثرة فحسب، وإنما لا بد من أعمال ضخمة ملموسة تبرز حرص الديكتاتور على النهوض بالأمة ورفع مستوى معيشة الجماهير، فيبحث الديكتاتور عن مشاريع قومية عملاقة تكتب اسمه في سجلات التاريخ بأحرف من نور، مثل بناء سد ضخم أو حفر نهر جديد أو زراعة مليون هكتار، أو إنشاء عاصمة جديدة، ويتم الإعلان عن تلك المشاريع فى صورة مفاجأة لجماهير الشعب، بدون نقاش مسبق أو حوار مجتمعي، وحتى بدون دراسات جدوى اقتصادية وبحوث علمية سليمة، فليس شرطا أن يكون المشروع مدروسا بعناية أو مخططا جيدا، المهم هو البروباجندا والدعاية السياسية.

الاقتراض سمة الطغاة!

ولأن معظم الدول الت يحكمها حكام ديكتاتوريون غالبا ما تكون فقيرة جدا، فإن الديكتاتور يضطر إلى الاقتراض من البنك الدولي أو من الدول الشقيقة الغنية، عشرات المليارات من الدولارات، وقد يضطر أيضا – بحسب درجة وطنيته أو عدم وطنيته – إلى بيع أجزاء من الوطن للدول المجاورة في سبيل تحقيق أحلامه ومشروعاته الزائفة.

على سبيل المثال، إمبراطور روسيا السادس عشر، القيصر ألكسندر الثاني، باع ألاسكا للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1867 بمبلغ سبعة ملايين ومائتى ألف دولار. من يتصور اليوم أن ولاية كبيرة بحجم ألاسكا، غنية بالبترول والثروات المعدنية، قد بيعت بهذا الثمن البخس.

والمرحلة الرابعة تسمى مرحلة التعظيم، والتي قد تتداخل في بعض الأحيان مع المرحلة الثالثة أو تسبقها بحسب شخصية الديكتاتور ودرجة ميله إلى تعظيم وتفخيم ذاته، وفي تلك المرحلة وبعد أن تستقر الأمور في يد الديكتاتور ويشعر أخيرا بالأمان من غدر الأعداء، يبدأ في الظهور في صورة القائد الملهم العظيم، الزعيم الضرورة الذى لا يمكن أن يستقر وينهض الوطن بدونه، ويبدأ الديكتاتور فى تلك المرحلة بالتحدث عن نفسه كثيرا وعن قدراته الفذة، وكيف أن العالم كله ينتظر قراراته ويتشوق لسماع خطبه وأفكاره الثمينة، وفي تلك المرحلة نادرا ما يغامر الوزراء وكبار رجال الدولة بالتعبير عن آرائهم الحقيقية أمامه، وإنما يظلون دائما فى انتظار تعليماته وتوجيهاته، فكل ما يفعله الديكتاتور أو يقوله أو حتى يفكر فيه، قمة الحكمة والشجاعة والعظمة.

ويستلزم من وسائل الإعلام في تلك المرحلة الترويج لفكرة أن الديكتاتور وحده هو الذي يعمل ويكد ويتعب فى الدولة، وأن الحكومة ليست على مستوى عظمة الديكتاتور، بل إن الشعب نفسه ليس على مستوى عظمة الديكتاتور، وأن السبب في تأخر إحساس الناس بثمار المشروعات القومية العملاقة التي أقامها الديكتاتور العظيم هو ضعف أداء الحكومة وتكاسل وخمول أفراد الشعب، ويصبح تغيير مواد الدستور التى لا تسمح بامتداد حكم الديكتاتور إلى فترات أخرى، مطلبا شعبيا واسعا.

الانعزال عن البشر

والمرحلة الخامسة تسمى مرحلة العزلة، وفى تلك المرحلة يعيش الديكتاتور فى عزلة تامة عن حياة مواطنيه ولا يعرف حقيقة ما يحدث في البلاد. فبعد سنوات طويلة من الحكم والحياة المترفة للزعيم وحاشيته، والتي تكون بعيدة تماما عن معيشة الناس العادية، يفقد الديكتاتور إحساسه بالفقراء الذين كانوا بمثابة نور عينيه فى البداية، إلى جانب أنه لا يعايش الحياة الحقيقية أبدا، وإنما تنتقل إليه صورتها عن طريق تقارير ترفعها إليه أجهزة أمنية مختلفة. وهذه الأجهزة ترى من مصلحتها دائما تخفيف الصورة القاتمة للأوضاع فى البلاد تفاديا لغضب الديكتاتور. يقال إن جوزيف ستالين كان يطبع نسخة خاصة من جريدة البرافدا ليقرأها الزعيم الروسي فلاديمير لينين وحده على فراش المرض، وكانت لا تحوي سوى الأخبار الجيدة فقط.

السقوط الأخير

والمرحلة السادسة والأخيرة، تسمى مرحلة السقوط، وهي أقصر المراحل وأعنفها وأكثرها خطورة، وفيها تنهار الأوضاع الاقتصادية وتتدهور أحوال الشعب، فتتزايد القلاقل والاضطرابات فى البلاد، فيستيقظ الديكتاتور من عزلته ويلجأ إلى استخدام القوة والعنف لإسكات المعارضين، وقد يضطر أحيانا إلى أن يقتل بعضهم، ولكن بالتدريج يفقد الديكتاتور القدرة على السيطرة على الأمور، ويتخبط فى إدارته للدولة، وتهتز السلطة تحت قدميه.

وتتعدد وتختلف صور السقوط من ديكتاتور إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، فبعض الحكام الديكتاتوريين تنتهى دورة حياتهم بانقلاب عسكرى جديد يطيح بالديكتاتور من على كرسى الحكم، وقد يقتل فى هذا الانقلاب أو يتمكن من الهرب إلى إحدى الدول المجاورة إذا حالفه الحظ. وبعضهم تنتهى دورة حياتهم بثورة شعبية عارمة، فيقبض عليه من قبل السلطة الجديدة ويتم تقديمه إلى محاكمة عاجلة، والتى عادة ما تحكم عليه بالسجن مدى الحياة أو الإعدام، كما جرى مع الديكتاتور الرومانى نيكولاى تشاوشيسكو الذى قدم إلى محاكمة استثنائية عاجلة لم تتجاوز مدتها ساعتين، أمام قضاة عسكريين، مثل المحاكم الصورية التى كان يعقدها لمعارضية، فذاق من نفس الكأس، وحكم عليه هو وزوجته بالموت، بتهم ارتكاب جرائم ضد الدولة والإبادة الجماعية وتدمير الاقتصاد الرومانى. وفى يوم المحاكمة نفسه، اقتيد مع زوجته معصوبى الأعين إلى أحد معسكرات الجيش الرومانى خارج العاصمة بوخارست، وأعدما رميا بالرصاص أمام عدسات المصورين.

انتقام الجماهير

وقد تتمكن جماهير الشعب الغاضبة من الوصول إلى الديكتاتور قبل القبض عليه، وتقوم بالانتقام منه بنفسها، كما جرى مع العقيد معمر القذافى أو مع الديكتاتور الإيطالى بينيتو موسولينى وعشيقته كلارا، اللذين تم تعليق جثتهما مقلوبين من أرجلهما مع جثث خمسة قادة فاشيين آخرين فى ساحة عامة في مدينة ميلانو. وكانت هذه الطريقة في الإعدام مخصصة للخونة في روما القديمة التي حاول موسوليني إعادة أمجادها. وجاءت الجماهير تشتمهم وتبصق عليهم وترميهم بما في أيديهم، وفقد بعض الجماهير الثائرة السيطرة على أنفسهم فأخذوا يطلقون النار على الجثث وركلها بالأقدام.

وبعض الحكام الديكتاتوريين تنتهي دورة حياتهم بهزيمة عسكرية مخزية، أو بكارثة اقتصادية مفجعة، أو بانهيار اجتماعى كبير. وفى معظم الأحوال تنتهي دورة حياة الديكتاتور بمأساة بشعة كبرى.