السلمية أقوى من الرصاص أحيانًا

- ‎فيمقالات

صارت جملة «سلميتنا أقوى من الرصاص» التى أطلقها الدكتور محمد بديع، مرشد الإخوان، على منصة رابعة، صيف 2013، مثيرة للجدل، فمن الناس من اتخذها شعارًا له؛ محتفيًا بها وبقائِلها، ومنهم- خصوصًا الشباب- من يراها مضيعة للوقت، مهلكة للصف، لا جدوى من تبنيها أو رفع رايتها.

فى مجال الدعوات؛ تتنوع المواجهات مع الخصوم بين القوة والسلمية، من لدن نوح وحتى يومنا هذا، وإن كانت السلمية هي الغالب الأغلب؛ لهدف الدعاة الأعظم: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88]، ولسمو الدعوات وطهرها، وبُعدها عن السعى من أجل المغانم والمكتسبات (إِنْ أَجْرِى إِلاَّ عَلَى اللَّهِ…) [هود: 29]؛ ولأن مهمة الدعاة هى تعبيد الناس لله وتحبيبهم فيه؛ فهم حريصون على دعوتهم بالحسنى بعيدًا عن الخشونة والغلظة (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…) [النحل: 125]،  لذا لم يتم اللجوء إلى القوة إلا بعد تحول الأوطان إلى ديار حرب، وبعدما كثر الفساد والطغيان حتى عُطلت عبادة الله؛ هنا وجبت المقاتلة: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال: 39].

إذًا انتهاج السلمية أو القوة مرهون بالواقع المعاش؛  فنوح بقى فى قومه نحو ألف سنة يدعوهم ولا مجيب، وظل على سلميته طوال هذه الفترة، وقد كان مضطرًا لذلك؛ لأن الذين آمنوا معه كانوا قلة لا يستطيعون مواجهة قومهم الكارهين لدين الله، ولو خرج نوح وأتباعه على قومهم لفنوا جميعًا، فبقى صابرًا محتسبًا، داعيًا إلى الله حتى أتى الطوفان فنُجى ومن معه وأُغرق المجرمون.

وموسى سار على نهج نوح، وأنصاره كانوا أيضًا أقل عددًا وعدة من فرعون وجنده، ولو وقعت مواجهة لفنى موسى ومن معه؛ من أجل ذلك آثر الفرار بهم لتقع المعجزة الكبرى كما وقعت لأبيه نوح من قبل حيث انشق له البحر لينجو، وأطبق على عدوه وجنده ليهلكوا جميعًا.

وهابيل كان بإمكانه الاشتباك مع قابيل، إلا أنه آثر أن يُقتل على يد أخيه الظالم؛ ليعطى للبشرية الدرس فى الالتفات إلى قيمة الروح وقدسيتها، وإلى فضيلة العقل فى الحكم على الأمور؛ ولئلا يكون الموقف بدءًا لسباق النحر فى الآدميين..

وحالة المواجهة الوحيدة التى أتت من إبراهيم -وهو الحليم الرشيد- ضد قومه، كانت عملاً فرديًّا، لفتًا للغباء الذى هم عليه، لما همّ بتكسير أصنامهم، فماذا كانت النتيجة؟ قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم، وكاد إبراهيم أن يُقتل حرقًا وتنتهى دعوته لولا أن نجاه الله، وأخرجه من النار سالمًا بعدما قال لها: يا نار كونى بردًا وسلامًا على إبراهيم.

وإذا كان محمد -صلى الله عليه وسلم- هو قدوتنا فلنستعرض تاريخه لنرى إلى أى الرأيين انحاز.  لم يسع النبى -صلى الله عليه وسلم- إلى حرب قومه أبدًا، وما خاض واحدة منها إلا وهو كاره لها؛ إذ كانت جميعها مفروضة عليه، إنما كان نهجه السلم، ودعوته الرحمة. ظل فى مكة ثلاث عشرة سنة ذاق خلالها وأصحابه العذاب الكبير؛ فما رفعوا خلالها سوى أكفهم إلى السماء بالضراعة والدعاء؛ حرصًا على قومهم؛ لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به، ولأنه –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا قلة؛ لو هلكوا لا يعبد الله فى الأرض، وقد أتتهم الفرص لقتال القوم وإفنائهم فأبى؛ حدث ذلك يوم العقبة، ويوم الحديبية (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)  [الفتح: 24]، ويوم عودته من الطائف عندما عرض عليه جبريل أن يطبق عليهم الأخشبين فلم يرض؛ وإن هى إلا سنوات معدودات حتى دخل مكة فاتحًا، وقد فعل مستحيلا

فعله لو سلك طريق القوة إبان وجوده فى مكة؛ من تكسير الأصنام، وتطهير البيت من الرجس، ومن الأذان فوق سطح الكعبة المشرفة، بل قد دانت له يومها جزيرة العرب قاطبة، من شرقها لغربها.

وما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين سلم وقوة إلا اختار السلم؛ فما زال يرسل الرسل، ويبعث القراء، ويلتقى الوفود يشرح لهم الإسلام ويحضّهم على البر حتى قُبض، وهو من أطلق أسرى بدر، وساوم على ألا يقاتل الأحزاب حتى تدخل السعدان، وهو الذى احتمل ضلالات وإفك ابن سلول، وكان يمكن لألف رجل أن يقتلوه بإشارة  منه، وهو من عفا يوم الفتح عن فلان وفلان وفلان ممن آذوه وآذوا بناته.

أما عندما يُفرض عليه –صلى الله عليه وسلم- القتال فكان أشجع الناس لا يسبقه أحد إلى مكان العدو، غير أنه لم يكن مندفعًا، منقادًا لعاطفته من دون ترو، بل كان يأخذ بالأسباب ويحسب القلة والكثرة، والقوة والضعف، وما وقعت الهزيمة فى أُحد إلا لما عصاه الشباب مرتين؛ مرة عندما أكرهوه على الخروج وكان يرى التحصُّن بالمدينة أنفع، ومرة ثانية على يد الرماة الذين استهوتهم الدنيا فاستُدرجوا إلى الهزيمة وجروا معهم الجيش كله حتى وُضعت سيوف المشركين على رقابهم.

واليوم؛ هل شعوبنا مهيأة –كحاضنة- لأن تُستخدم القوة بديلاً عن السلمية والمقاومة الناعمة؟ أم أنها لا زالت منقسمة موزعة بين مؤيد لحركات الإصلاح وناقم عليها؟

قد يعتقد البعض أن غالبية شعوبنا تؤيد القوة، وهذا اعتقاد خاطئ بالطبع؛  ذلك أنه لم ينظر فى سيرة من سبقوه مؤخرًا (عقد التسعينيات)؛ ماذا فعلوا أو ماذا فُعل بهم؟ وأين هم الآن؟ وأين أنصارهم؟ وهل نفعوا الدعوة أم أضروا بها؟ وإذا لم يجب عن هذه الأسئلة فلينظر من يواجه: نظام دولى، صهيونية عالمية، صهيونية عربية، عروش وجيوش تعمل تحت إمرة الغرب، قطاعات شعبية متكسبة من الأنظمة القائمة.. وهؤلاء لا تجدى مقاومتهم بالقوة وهم على هذه الوحدة والاجتماع وإلا تم استئصالك والنكاية بك، إنما المجدى هو فضحهم، وتفكيكهم، ومقاومتهم بوحدتنا نحن،  وبالمال واللسان،  وبكسب الأنصار، وخلخلة معسكرهم، وتيئييسهم من الاستقرار أو أن يهنؤوا بما اغتصبوه.

والسلمية لا تعنى التنازل والميوعة حتى يركبك الخصم ويفنيك، إنما السلمية أن يجرجرك الخصم إلى قتال هو أقدر عليه، وأن تستدرجه أنت إلى حيث إحراجه وإرهاقه وإفساد قوته، وكسب أنصاره وجعله يخشاك، وربما فى مرحلة تالية يسعى إليك بالصلح وأنت تصرُّ على الرفض حتى يخضع لشروطك ويتخلى عن رعونته. وهذه السلمية تحتاج إلى صبر وحكمة، وضبط للعاطفة، وبث للأمل والبشرى الصادقة، من دون مبالغة أو تهييج.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها