بين يدي الرجم والعقوبات في الفقه الجنائي الإسلامي

- ‎فيمقالات

لا أدرى ما الذى جعل قضية عقوبة الرجم – والعقوبات بعامة – تطفو على السطح هذه الأيام ، ويتداولها البعض على صفحات السوشيال ميديا، ويتناقلها من يهرف بما لا يعرف، ومن لا يفرق بين الحد والتعزير ، ولا بين النسخ والتخصيص ، وكأننا بصدد تنفيذها فى ظل قيام دولة إسلامية ممتدة السلطان والعمران مرهوبة الجانب حققت الأمن والأمان والكفاية للناس ، ويخشاها القاصى والدانى، ولم يعد أمامنا
إلا قضية عقوبة الزانى المحصن ، فى الوقت الذى اصبح أقصى ما يرجوه المسلم فى بلاد المسلمين هو أن يعيش آمنا على نفسه وأهله وماله وعرضه، وان تكف الأنظمة الجائرة الأذى عنه ، وفى حالات أخرى أصبح أقصى ما يرجوه المسلم ان يحاكم محاكمة عادلة، او يحاكم أمام قاضيه الطبيعى كما تقرر الدساتير والقوانين الوضعية وتقره الشريعة الإسلامية .

ثم إن حساسية قضية الرجم من ناحية ، وطرحها من قبل غير المتخصصين من ناحية أخرى ، ثم طرحها للنقاش والتعليقات على الملأ ومشاركة كثير من العوام فى النقاش، من ناحية ثالثة، مثلت ثلاثتها خطورة فى العرض والتصور والأحكام والآثار .

ومن المقرر ان إقامة العقوبات والحدود بين الناس أمر موكول تطبيقه للحاكم، وتنفذه الجهات التنفيذية فى الدولة مع مراعاة نظام التدرج فى تطبيق العقوبات وتوفير الإجراءات العادلة لضمان محاكمات نزيهة وعادلة، والأخذ فى الحسبان ظروف وملابسات وقوع الجريمة والبيئة التى أحاطت بها، وكذا وضع الجانى نفسه .

كما أن الحديث عن العقوبات فى النظام الإسلامى بعامة يسبقه كثير من التوضيح والتفصيل والشرح الذى يجلى الحقائق ويدفع الشبهات ويجعل الصورة كاملة أمام الأنظار لتدرك العقول مدى عدالة هذا التشريع، وتفقه القلوب مراميه وفلسفته ، فلا تجد بعد ذلك مجالا للغرابة ، او تدعوها شدة بعض العقوبات إلى الاستنكار والاستبشاع كما يروج الذين يتناولون العقوبات ويطرحونها بصورة شوهاء عن عمد لتترسخ فى الأذهان والعقول صورة مخيفة منفرة عن التشريع الجنائى الإسلامى.

ومادام الحديث عن الرجم قد دار ، ولاكته الألسنة ، وطرحته بعض صفحات التواصل الاجتماعى، وتحدث فيه غير المختصين بما أساءوا فيه أكثر مما أحسنوا، أجد من الواجب قبل تناول هذا الموضوع الوقوف عند بعض النقاط المهمة :

أولا : الإسلام ليس كله قوانين ، والقوانين ليست كلها حدودا ، والقوانين والحدود لا تصنع مجتمعا .

ثانيا : إن الذين يفهمون تطبيق الشريعة على أنه تطبيق للحدود أساءوا الفهم واختلطت لديهم الأمور وقبل أن يقال : اقطعوا يد السارق ، واجلدوا الزانى والقاذف، وعاقبوا السكارى ، يقال : أطعموا الجياع ، وداووا المرضى، وعلموا الجاهل ، اقضوا على البطالة والعنوسة، يسروا الزواج ، أقيموا العدل، عظموا الحريات والحقوق، وفروا الأمن للإنسان، وانشروا الأمن فى الأوطان ، أكرموا أعظم مخلوق فى عالم الوجود فهذا جوهر رسالة الإسلام .

ثالثا : إن الحدود ستكون آخر ما يمكن أن يطبق من التشريعات وفق نظام التدرج فى الإسلام، لتمثل السياج الذى يحمى المجتمع الذى شكله وأنشأه الإسلام، وستكون هناك أولويات أمام أية حكومية تتجه للإصلاح والتغيير ممثلة فى: العمل على بناء الإنسان واحترام حقوقه وتعظيم حرياته، وحفظ كرامته ( ولقد كرمنا بنى آدم ) ، وتوفير احتياجاته الأساسية من مطعم ومشرب وملبس ودواء ومسكن ، والعمل على إصلاح التعليم والاقتصاد والصحة ، وتعظيم الفضيلة وغرس القيم ، ونشر الأخلاق ، وإحياء الضمائر وتنمية الوازع الدينى .

رابعا : الشارع غير متشوف لجلد الظهور وقطع الأيدى وإزهاق الأرواح ، كيف يكون ذلك وقد رد النبى صلى الله عليه وسلم ماعزا عدة مرات ، وهو يقول : لعلك قبلت ، لعلك لامست . وكذلك فعل مع الغامدية ، حتى قالت : أتريد أن تردنى كما رددت ماعزا ؟ وكان مما قاله النبى لهزال الذى أشار على ماعز بالذهاب إلى النبى: ( لو انك سترته بثوبك لكان خيرا)

وكان مما اعتبر قاعدة عامة فى باب الحدود ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة) الترمذى.

وقد اتفقت المذاهب الفقهية على قاعدة ( درء الحدود بالشبهات) وطبقتها ، قبل أن تقر القوانين المعاصرة قاعدة ( الشك يفسر لصالح المتهم )

كما تشدد الشارع فى إثبات جريمة الزنى بخاصة فاشترط لها أربعة شهود يأتون بالشهادة متطابقة ، فإذا اختلفت شهادتهم وصفا أو زمانا أو مكانا فإن ذلك يعتبر شبهة تدرأ الحد.

خامسا : أراد الشارع – قصدا – ان تكون عقوبات الجرائم شديدة لتحقق الردع المناسب للجناة، بحيث يكفى ان تطبق بضع مرات فقط لتستأصل شأفة الجريمة من المجتمع ، وتقضى على الفساد .. فهى من هذه الزاوية عقوبات تهديدية أكثر منها تنفيذية، وعقوبات تخويفية أكثر منها تطبيقية.

سادسا : قبل النظر إلى شدة العقوبة وأثرها على الجانى ، لا بد من النظر إلى خطورة الآثار المدمرة المترتبة على هذه الجريمة على الأسر والعائلات والمجتمع ؛ لأن ثبوت هذه الجريمة فيه هدم للأسر واغتيال معنوى وأدبى للعوائل والعشائر حتى قال العز بن عبد السلام: ( اشتراط أربعة شهود فى الزنى لدفع العار عن العشائر والقبائل ) ومن ثم كان هناك تناسب بين الجريمة والعقوبة .

سابعا: مع كون هذه العقوبات شديدة إلا أن جريمة الزنى فى العصر النبوى لم تثبت إلا بالاعتراف والإقرار كما حدث مع ماعز والغامدية ، لأن الإسلام لا يصلح المجتمعات
بالقوانين وحدها ، بل يعمد إلى التربية الإيمانية ، وتنمية الوازع الدينى وإحياء الضمائر لدى الأفراد والمجتمعات.

ثامنا : لكل أمة قانونها الخاص فى التجريم والعقاب النابع من أفكارها ومعتقداتها وأيدلوجيتها ووفقا لهذا :

– اعتبر الزنى بالتراضى عند الغرب حرية شخصية، ومن ثم فلا تجريم ولاعقاب ، أما عندنا – نحن المسلمين – فإنه مجرم ومعاقب عليه مع وجود التراضى.

– أقرت بعض الدول الغربية زواج المثليين، وأصبح لهم حقوق قانونية فى حين أنه مجرم ومعاقب عليه فى تشريعنا الجنائى ، ويسمى إتيان الذكران لبعضهم (اللواط) ويسمى إتيان الإناث لبعضهن (السحاق) .

– لم تعاقب بعض الدول علي القتل العمد بالقصاص ، وإنما بالسجن حتى وإن قتل الجانى أكثر من واحد ، بينما فى تشريعنا الجنائى يعاقب القاتل عمدا بالقصاص ( ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب ) إلا أن يعفو أولياء الدم .

– أتاحت بعض الدول للمرأة الحق فى الإجهاض إذا لم ترغب فى استمرار الحمل ، سواء كان من سفاح أو من نكاح ، بينما الإجهاض مجرم فى تشريعنا حتى وإن كان من سفاح ؛ لأن فيه اعتداء على حق الحياة لنفس إنسانية بريئة، فإذا حدث فهو جريمة أخرى تنضاف إلى جريمة الزنى .

ومع ذلك فنحن لا نستطيع أن نرفع عقيرتنا فى اى محفل دولى لنعيب عليهم هذا المسلك وإلا لاعتبر ذلك منا تدخلا غير لائق وغير قانونى فى شؤونهم الداخلية .

تاسعا : حالة الضعف التى تحياها الأمة الإسلامية هى التى جعلت الغير يتدخل فى شؤوننا وينكر علينا التمسك بتشريعاتنا ، وينتقد نظامنا الجنائى ويضغط علينا لنتبرأ منه أو نستحى من ذكره ، ويستبشع بعض العقوبات ، فى الوقت الذى لا يستبشع من يعاقب شعبه بإلقاء البراميل المتفجرة عليه والأسلحة المحرمة دوليا التى تذيب الأجساد وتشوى الجلود ، وتفتت العظام .

ولا ينكر على من يقتل المخالف أو المعارض بالدانات أو قذائف الآر بى جى ، ولا يستبشع صنيع من يلقى بخصمه للأسود والحيوانات المفترسه حيا ، ومن يلقى بالمخالف من الطائرة حيا فى الصحراء أو الجبال او البحار .

عاشرا : جاءت الشرائع السماوية بالحفاظ على ما يعرف بالكليات الخمس أو الضروريات الخمس أو ما أطلق عليه المقاصد العامة للشريعة وهى ( الدين ، النفس ، النسل ، المال ، العقل ) وقد شرع الإسلام عقوبات على من يعتدى عليها أو ينال منها ، مثل عقوبة الردة للحفاظ على الدين ، وعقوبة القصاص فى القتل العمد للحفاظ على النفس ، وعقوبة الجلد فى الزنى للبكر والرجم للثيب للحفاظ على النسل ، وعقوبة قطع اليد فى السرقة للحفاظ على المال ، وعقوبة شارب الخمر للحفاظ على العقل .

والذين أباحوا الزنى اعتدوا على كلية حفظ النسل ، والذين أباحوا الخمر اعتدوا على كلية حفظ العقل .. ومما يذكر فى هذا الصدد أن عقوبة الرجم جاءت فى التوراة – كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة – ونصوصها باقية إلى الآن فى أيديهم تقرأ، ولم يكن فى الإنجيل ما يعارضها، وكذلك هى واجبة علي النصارى بحكم أن ما فى العهد القديم وهو التوراة حجة عليهم إذا لم يكن فى العهد الجديد وهو الإنجيل ما يخالفها .

وللحديث بقية إن شاء الله.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها