زائر الحارة

- ‎فيمقالات

تجمعت أمام عينيه هموم الحياة وكثرة تفاصيلها وأرقها الشديد. أحيانا يشعر بالضجر والكآبة لتلك الشدائد الجسام التي تمر من حوله وتؤثر فيه كثيرا، وأحيانا أخري تنتابه أحاسيس السأم والملل من تلك الأحداث ومن غيرها مهما كان؛ فقد عاش قلبه سنوات عدة انقضت إما منتظرا الفرج ممنيا نفسه به من حين لآخر، أو حزينا منقبضا من إثر ما يسمعه بشكل لحظي يقع لمن هم أنقي وأطهر من عرف؛ يعيشون ملمات مما تنخلع الصدور لذكرها، ويكاد عقل الفطين منها يُجن..وقد جلس الآن كمن اُسقط في يديه، يمسك رأسه بين كفيه ويقلب نظره في كل ما مرّ به وحوله مما مضى.

*****

وهو على هذه الحال إذ انتبه إلي انقطاع الكهرباء من حوله، وساد ظلام دامس، وعندما فتح عينيه فيه حتي اعتاده بعض الشيء، إذا بموضع واحد يتسلل منه شعاع بسيط من الضوء، شدّ انتباهه هذا الشعاع..خاصة أنه كان يصدر من شق قديم في الحائط الأمامي الذي أبقي عليه كما هو عندما ورث هذا البيت عن أجداده.

اشتد فضوله ليعرف مصدر هذا الشعاع وحكايته، فهمّ واقفا متتبعا الضوء المتسلل سائرا خلفه، فإذا به بعد قليل قد اخترق الحائط وعبر من خلاله ليصل إلي حارة قديمة عتيقة، وإن كانت لا تختلف في مظهرها الواضح عن الكثير من الشوارع والطرقات والأزقة الحديثة التي يسير فيها أي إنسان، لكن اللافت أنها حارة شديدة التخطيط والدقة في التنظيم والمعمار.

*****

على قمة المكان برز بناء ضخم يشي مظهره بأنه ليس منزلا سكنيا كالمعتاد. فكان ذلك أول ما استثار فضوله و جذبه ليفحصه ويتبينه عن كثب، فغذّ الخطو إليه حثيثا؛ فإذا به مصنع كبير يضم الكثير والكثير من العنابر المختلفة والمتعددة والتي لا تفصح بوضوح عن ماهية ما ينتجه هذا المصنع بجلاء؛ فقد كانت بعض العنابر تبدو وكأنها أفران للصهر، وأخري تضم مطارق غليظة عملاقة، لكن الغريب أن منتج تلك العنابر لم يكن سلعا، بل أُناس وأفراد من البشر؛ يدخل الواحد منهم تلك العنابر ويخرج وقد بدت عليه هيئة الوقار والهيبة بل وملاحة الشكل..!

تعذر عليه تماما أن يفهم ماهية تلك المصانع أو أن يكشف سرها، فأطرق بجوارها يفكر واجما، وإذا به أمام لافتة أخري تعلن عن مختبرات للتحليل، فأسرع بالذهاب إليها لينشغل بها نوعا ما عما عجز عن فهمه، وهناك وجد أن وحدات التحليل لم تكن عينات من الدم كما هو الحال في أغلب المختبرات، بل إنها بعض من ردات الفعل أو الكلمات والمواقف..!

زادت دهشته حتي تحولت إلي حيرة وانقباض من إثر عجزه عن فهم معالم تلك الحارة وفك ألغاز هيئاتها وأبنيتها..وهي دهشة يزيد منها ما يراه من وجوم علي وجوه أغلب ساكني تلك الحارة، وكأن جلهم كمن يمشي وهو نائم أو لمّا يستيقظ بعد..!

وفي الطريق..جلس ليلتقط أنفاسه ويفكر فيما يحدث له، فإذا بجلسته قد جاءت علي مقعد في مسرح مكشوف؛ فسرت في نفسه راحة، وأقبل في فضول وترقب يستطلع ما يعرضه هذا المسرح من مشاهد وأحداث علها تؤنس وحشته نوعا ما…

ساعات طويلة مضت وهو لا يمل من مشاهدة ما يتم عرضه من شدة ما يبعثه في النفس من جمال وعذوبة وصفاء، وبين كل فينة وأخري يتلفت حوله فإذا الحضور حوله قليل للغاية، رغم أن المكث هناك بالمجان..بلا أدني مقابل، إلا أن أغلب المارين كانوا يزهدون في النظر إلا قليلا، وكأنهم لا يريدون أي انتباه من نوبة النوم الطويلة التي تجتاج الحارة وتسيطر علي أغلب من فيها..

*****

أحس بأنه قد مضي وقت طويل علي لبثه في هذا المكان، فنظر في ساعة يده فإذا هي متوقفة لا تعمل، ومن ثم فقد نهض عازما العودة قلقا علي ما خلفه من أمور، وهو في طريق عودته تلك لمح علي ناصية الحارة لافتة مكتوب عليها “حارة المحنة”..

أخذ في تتبع شعاع الضوء الذي قاده إلي هذا المكان..في إثره سار..وسار حتي وصل إلي شق الحائط الذي يعرفه..وحينما كاد أن ينسل منه..فتح عينيه فإذا به علي مقعده في بيته لم يفارقه..وإذا بكل ما شاهده حلما زاره ليهون عليه قليلا ويرحل..

*****

لم تأخذه الحيرة كثيرا فيما رأي، فهو الآن يستطيع أن يفسر تلك المعالم التي رآها والأماكن التي زارها، فمصانع “حارة المحنة” ليست إلا ما ينتج رجالا أبطالا حراسا علي الأخلاق والفضيلة والقيم، وهو إنتاج لا يكون يسير المنال، بل لابد له من تلك المطارق الضخمة، والأفران شديدة الصهر..!

وفي المكاره نفسها تُختبر الأنفس بصدقها وكذبها ونفاقها وثباتها، ويظهر لنا بجلاء كل ما أضمرته القلوب المخالطة لنا وتواري داخلها كسر تنبعث الخطوب لتكشف عنه..

تمور النوازل وتمور، ورغم كل علاتها وآهاتها إلا أنها كهذا المسرح الكبير يمكنه أن يفشي لك سر الكنه الحقيقي للجمال والبهاء والرونق والطيب والشذا الأخاذ؛ تلك اللآليء التي تحتجب في محار القلوب فلا تعرف سوي الصبر والرضا والنفع لمن حولها، فتحسن بذلك صحبة ألطاف الله تعالي وإدراكها حين تتخايل لها آهةً أو عبرة أو حسرة.

لكن ما أثقل فؤاده بحق وكاد به كبده أن يحترق، رؤيته لهؤلاء النٌوّم وهم سائرون، فخلفهم تقف تلك الغفلة التي يحياها كل من يعاصر أحداثا هامة أو حتي أحداث حياته الراتبة فلا ينتبه لما بها من حكمة وقصد، وكل ما يشغله هو كيف يمر المُر، وكيف يأتي الحلو، وينسي بين الأمرين أن يعيش الأيام كما هي، ويتزود من هذا وذاك، كل بما فيه وبما خُلق له. فيفوته مصنع البطولات هذا الذي-رغم غلظته البادية- إلا أنه هو ما يحيله إلي شخص آخر غير الذي دخل، فيزيده وضاءة وحُسنا ونورا..

ويغيب عنه أن فراره من هذا المصنع لن يعفيه من تمحيص ما استتر بداخله واختبأ؛ فالمحنة كاشفة كاشفة حتي لمن حاول الابتعاد والفرار..

والتسرية في ذلك للجميع عبر هذا المسرح الذي لا ينتبه إليه إلا ذوي الحظ؛ ففيه راحة وسكنا وطمأنينة لمن أحسن الفهم..

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها