عن أسطورة “الاستبداد الشرقي”

- ‎فيمقالات

قبل عامين، جمعني لقاء بباحث غربي متخصص في حقل الانتقال الديمقراطي، على هامش مؤتمر علمي في واشنطن. ودار بيننا حديث عن أسباب فشل الثورات العربية، وعدم قدرة البلدان العربية على تحقيق انتقال ديمقراطي ناجع، على غرار ما حدث في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وأفريقيا.

وبعد جدل بشأن طبيعة العوامل البنيوية التي تساهم في ترسخ الاستبداد في المنطقة العربية، كالقمع والفقر والجهل والدعم الغربي للأنظمة السلطوية، انبرى الباحث بالقول إن الاستبداد متجذر وأصيل في الثقافة العربية، وبالتالي من الصعب تغييره أو الإفلات منه.

وبعد أن نال صاحبنا ما يستحق من النقد والتعليق على ملاحظته الاستشراقية الواضحة، والتي تستبطن في داخلها مقولة “الاستبداد الشرقي” التي يتم ترديدها كثيراً عن حتمية وقوع الشعوب العربية تحت الاستبداد، وتميل إلى الاستسهال في تفسير قضية معقدة كالاستبداد، عدت إلى التفكير في مقولة صاحبنا، وما إذا كانت صحيحة أم لا. تذكرت تلك الواقعة، بينما أقوم بالتحضير لإحدى محاضراتي عن جذور الاستبداد وآليات إنتاجه. وكان لافتا أن مقولة “الاستبداد الشرقي” تعود بجذورها إلى أحد أهم فلاسفة السياسة منذ فجر التاريخ، أرسطو، الذي يرى أن الاستبداد كامن في الشرق بسبب أن الشعوب الآسيوية (يصفها بالبرابرة) تميل بطبيعتها إلى الاستبداد “لأنهم عبيد بالطبيعة” حسب قوله. وفي هذا الصدد، يقول “البرابرة أكثر خنوعا بطبيعتهم من الإغريق، والآسيويون أكثر خنوعاً من الأوروبيين. ومن هنا، فإنهم يحتملون الحكم الاستبدادي دونما احتجاج… هذه الملكيات شبيهة بالطغيان، إلا أن أوضاعها مستقرّة لأنها وراثية وشرعية”.

هي الفكرة نفسها التي ما برحت تتكرّر وتنتقل من جيل فلسفي إلى آخر، بل وعلى ألسنة من يعتبرهم بعضهم أهم منظّري الديمقراطية في الغرب، مثل المفكر الفرنسي مونتسكيو (1689-1755)، صاحب ومؤسس نظرية “الفصل بين السلطات”، والذي يرى أن “الاستبداد الشرقي” قدرٌ يصعب الفكاك منه، حيث يستند الحاكم المستبد إلى الدين لتبرير حكمه، وهو بالنسبة إليه (حكم الجهل، جهل المستبد ذاته، وجهل رعيته، من هنا الغياب التام لكل فضيلة)، كما أنه يرى أن أمراء الشرق “انغمسوا انغماساً شديداً على الدوام في الميوعة والشهوة”.

انتقلت الفكرة نفسها من أرسطو إلى صاحب المنطق الجدلي الذي يقدّس العقل، هيغل (1770 – 1831)، والذي يرى أن الحكم الاستبدادي هو “نظام الحكم الطبيعي للشرق” الذي يقوم على أساس أبوي بطريركي. حيث يقوم النظام الشرقي على مبدأ شخص واحد حر، هو الحاكم الذي يمارس “حكمه على طريقة الأب مع أبنائه، وأن له حقوقا، لا يجوز معارضتها، لأنه أب للجميع، وطاعته واجب حتمي”.

ووفقا لهيغل، فإن الشعب الشرقي “ليس لديه عن نفسه إلا أسوأ المشاعر، فهو لم يُخلق إلا ليجرّ عربة الإمبراطور، وهذا قدره المحتوم، وعاداتهم وتقاليدهم، وسلوكهم اليومي تدل على مبلغ ضآلة الاحترام الذي يكنونه لأنفهسم كبشر”. هكذا يرى هيغل، أبو الفلسفة المادية العقلية، الشرق وأهله. وهي أيضا الفكرة التي تبنّاها كارل ماركس، ضمن ما أطلق عليه “نمط الإنتاج الآسيوي”. وقد نجح الباحث زهيد فريد مبارك في تتبع أصول فكرة الاستبداد الشرقي في كتابه “أصول الاستبداد العربي”، مبيناً جذور الفكرة وتطورها منذ أرسطو.

وبالعودة إلى صاحبنا، لا يمكن إنكار أن المنطقة العربية تظل آخر مناطق العالم انتقالاً إلى الديمقراطية، ولكن المسألة لا تتعلق بعدم رغبة العرب في التحرّر من الاستبداد، أو بميل “طبيعي” بداخلهم إلى الاستبداد، أو بأن ثقافتهم ودينهم وعاداتهم تفضل الاستبداد على الحرية. فما شهدناه، ولا نزال، من انتفاضاتٍ وثوراتٍ واحتجاجاتٍ تطالب بالحرية والانعتاق من الاستبداد في أكثر من نصف البلدان العربية، طوال العقد الماضي، يؤكد أن ثمّة طلبا حقيقيا على الحرية، وعلى الرغبة في إنهاء الاستبداد. وكلما ظن بعضهم خطأ، مثل صاحبنا، أن الثورات والانتفاضات العربية قد انتهت، خصوصا بعدما حدث في مصر وسورية واليمن وليبيا، يُفاجأون باحتجاجات وانتفاضات جديدة في بقع أخرى من العالم العربي، مثلما الحال الآن في السودان والجزائر. في حين يتجاهل صاحبنا، ومن على شاكلته، دعم الغرب وبلاده المتواصل الأنظمة السلطوية، والذي يبدو كفيلاً بإجهاض كل محاولات التحرر من الاستبداد.

خذ مثلاً مصر وسورية والجزائر، وهي البلدان الثلاثة التي شهدت ثورات وانتفاضات في مراحل مختلفة. ولكن انتفاضاتها تم إجهاضها، والانقلاب عليها من خلال تحالف سياسي بين الأنظمة السلطوية والغرب، ففي مصر لم يقو الغرب على تسمية ما حدث في 3 يوليو/ تموز 2013 انقلاباً، على الرغم من وضوحه بشكلٍ لا يدع للشك مجالاً. بل دعم، ولا يزال، النظام الذي قفز على السلطة بعد ذلك، ويمارس كل أنواع القمع والقتل والتعذيب. ولولا الدعم العسكري الروسي للنظام السوري الذي كاد أن يسقط أواخر عام 2015، لما بقي بشار الأسد في السلطة. ولولا تحالف فرنسا مع العسكر في الجزائر أوائل التسعينيات، وانقلابهما على نتائج الانتخابات التشريعية عام 1991، لما دخلت الجزائر في حربٍ أهليةٍ داميةٍ، راح ضحيتها الملايين، ولا يزال بعضهم يخاف من تكرارها.

قطعاً، لا يعني هذا لوم الغرب وحده على مأساة الاستبداد في بلداننا، وإنما يعني بالأساس أن مقولة “الاستبداد الشرقي” التي يتبنّاها صاحبنا، ومن قبله كبار فلاسفة اليونان والغرب، ليست سوى مجرد هروب من الواقع، وتبرير ساذج لدعم حكوماتهم المستمر المستبدين العرب.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها