لماذا نكره الموت؟!

- ‎فيمقالات

الناس جميعًا –إلا من رحم الله- يكرهون الموت، ويكرهون ذكره، ويكرهون من يذكّرهم به رغم كونه حقيقة لا مراء فيها قد كتبها الله على كل مخلوق. فلماذ إذًا هذا النفور؟ ولماذا كل هذا التغافل؟ مع العلم أن نصوص الكتاب والسنة تؤكد هذا اليوم وتدعو للعمل له؛ مثل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185]، (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء : 78]، ولو كان استثناء لأحد من قبض الملائكة لروحه لكان ذلك للنبيين –أصفياء الله- وأولهم محمد –صلى الله عليه وسلم- الذى قال الله له: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر: 30].

إن فى كل ساعة شاهدًا يذكرنا بالموت فلا نتذكر؛ إذ يموت الناس من حولنا إما لسن أو لمرض أو لحادث، وفى الأسباب جميعًا عبرة فلا نعتبر. لقد قست قلوبنا، وذهب من نفوسنا جلال الموت ورهبته، تقول لأحدهم: مات فلان بينما كان يسامر أولاده. يقول لك: (وما الجديد في ذلك؟! الناس يموتون كل يوم)، بل يكره أن تستكمل الحوار حول هذا الموضوع، متناسيًا الموت الذى هو أقرب إليه من شراك نعله، ويعرض صفحًا عن سيرته، ويعود إلى ممارسة حياته والانشغال بمكدراتها وكأن شيئًا لم يكن.

إنك إن شاركت فى جنازة ودققت النظر في وجوه وسلوك المشيعين يأخذك العجب والحزن في آن واحد – إن كنت عالمًا بحقيقة الموت وفلسفته فى الإسلام- فهم لاهون عن جلال الموقف، منشغلون بدنياهم إلى حد الهوس، يحملون الميت أداء لواجب: (إكرام الميت دفنه)، أما العظة فلا تجدها. فمن المعتاد الآن أن تجد الجوالات (ترن) ويتم الرد عليها دون حرج؛ ونحن المأمورون بالصمت والسكينة فى الجنازات، وربما سمعت من بجوارك يعقد صفقة تجارية والناس يوارون الفقيد التراب، أو يوجه موظفى شركته ولم ينصرف الناس بعدُ عن الشاهد؛ فإذا انصرفوا عادوا لما كانوا عليه من الشغل والانهماك، والفرح والمرح.

يقول النبى – صلى الله عليه وسلم-: (أكثروا من ذكر هادم اللذات –أى الموت)، وسُئل –صلى الله عليه وسلم-: أى المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقًا، قيل: فأى المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرًا وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس)؛ أى الأكياس هم من لا يتورطون فى الدنيا فيجعلونها أكبر همهم أو مبلغ علمهم، وينسون الآخرة فلا يذكرونها إلا قليلا؛ فالله يقول: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) [النحل: 70]، ويقول: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ) [المؤمنون: 15]- أى ليكن هناك ميزان تزنون به مدى قربكم من الدنيا وبعدكم عن الآخرة، وذلك بعد تدبر هذه الآيات البينات التى تذكركم بحقيقة الموت وأن لكل منكم أجلا لا ريب فيه.

لقد بتنا نسمع قصصًا عجيبة تتعلق بتعامل الناس مع الموت؛ لحبهم الدنيا، وقلة زادهم فى الآخرة، ولضعف إيمان وخلل فى العقيدة؛ فذلك شاب مات أبوه فى إحدى دور المسنين، ولما اتصل به مسئولو الدار كى يستلم جثمانه اعتذر؛ بحجة انشغاله وأبدى لهم استعداده لدفع نفقات تجهيزه ودفنه. فأبكى ذلك الجاحد كل من فى قلبه ذرة من إيمان.

إن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، ولا يحب لقاء الله متذكرًا الموت إلا كل ذى قلب مشغول بالطاعة، مهموم بالآخرة، يتذكر الجنة والنار، والقبر والصراط، والحشر والميعاد، والأبرار والفجار. أما الحمقى فيتبعون أهل الغفلة والشهوات، يجرون خلفهم ناسين الله الذى أنساهم أنفسهم (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 96)، ولقد تحداهم القرآن بتمنى الموت فلم يفعلوا (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ([البقرة: 94، 95].

وفى هذا المعنى ورد عن أبى ذر – رضى الله عنه- أنه سُئل: لماذا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة، فتكرهون أن تُنقلوا من عمران إلى خراب. فقيل له: فكيف ترى قدومنا على الله؟ قال: أما المحسن منكم فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء منكم فكالآبق يُردّ على مولاه. قيل: فكيف ترى حالنا عند الله؟ قال: اعرضوا أعمالكم على الكتاب، إن الله يقول: إن الأبرار لفى نعيم، وإن الفجار لفى جحيم.

من منا يتأثر بالموت فيقف مع نفسه وقفة مراجعة ومحاسبة؟ من منا ينتظر الموت غير مؤمل البقاء؟ من منا يذكر موتاه فيدعو لهم ويرجو الله فيهم متذكرًا أنه بهم لاحق؟ من منا يزور المقابر للعظة ومعاينة مسكنه الأساس الموصل لإقامته الأبدية؟

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها