متى يصل السيسي إلى سن الفطام عن الكنيسة؟

- ‎فيمقالات

 

 

أين يتوقف الدين، وأين تبدأ السياسة في هذا الامتزاج الغبي، والكيدي، بين سلطتي الكنيسة والحكم العسكري.. وأين مصر، وطنًا للكل، من هذا الكرنفال الصاخب، احتفالًا بزواج كاثوليكي بين العسكر والكنيسة، في إطار صفقةٍ على حساب الوطن وقيمة المواطنة؟.
نص المقال:

باتت رحلة عبد الفتاح السيسي السنوية الى نيويورك مناسبة لتعبئة خزّان الاحتقان الطائفي بالوقود.
في سنوات مضت، كانت الكنيسة تسلك معه باعتباره الصبي المدلل لها، وهو ذاهب إلى أول يوم دراسي في العام الجديد، تتولى هندمته وتطمئن على الـ (lunch box)، تعد له زفّة صاخبة تكيد بها الحاسدين.

هذا العام، قرّر رأس الكنيسة أن يقود الزفّة بنفسه شخصيا، وأن يكون ترتيب كل شيء من الباصات الناقلة للحشود الطائفية، إلى الساندوتش والمشروب البارد، في حضوره، وبمتابعة مباشرة من قيادات كنسية أخرى.

ليست هذه المشاهد البائسة مهينة للكنيسة وللدولة المصرية، وليست فقط محرجة للمواطن المصري المسيحي، لكنها، وهذا هو الأخطر، نوع مخيف من اللعب بالنار، وصنف جديد من العبث الطائفي والنزق المتهور من رأس السلطة الدينية (المسيحية) ورأس السلطة العسكرية الحاكمة لمصر.

هنا مربط القلق، إذ لا يريد تحالف “البابا والجنرال” التوقف عن اللعبة المجنونة، والدفع بالبلاد إلى ذروة الاحتقان الذي يقف بالجميع على حافة الاحتراب المجتمعي المخيف، وخصوصًا في ظل الإمعان في إهانة المشاعر الوطنية للغالبية الكاسحة من أبناء هذا الوطن.

هذا الابتذال السفيه، والهوس المبالغ فيه، من الثنائي، يجعلك في حيرةٍ من أسباب وجود السيسي في نيويورك: هل يذهب ممثلًا للجيش؟ أم ممثلًا للكنيسة؟ أم هو ممثلٌ فاشلٌ، يبحث عن دور صغير في دراما سياسية خرقاء، يقودها دونالد ترامب، بكل حمقه الجامح؟

أين يتوقف الدين، وأين تبدأ السياسة في هذا الامتزاج الغبي، والكيدي، بين سلطتي الكنيسة والحكم العسكري.. وأين مصر، وطنًا للكل، من هذا الكرنفال الصاخب، احتفالًا بزواج كاثوليكي بين العسكر والكنيسة، في إطار صفقةٍ على حساب الوطن وقيمة المواطنة؟.

السؤال الأهم: إذا كانت خمس سنوات قد مضت، والسيسي لا يستطيع أن يذهب إلى الأمم المتحدة، من دون هذا الموكب القبطي الصاخب، فكيف يصدّق أنه حاكم لدولة بحجم مصر، محدّدة الهوية، بنص المواد الأولى من كل دساتيرها المتعاقبة؟.

بصيغة أخرى، متى يصل الجنرال إلى سن الفطام عن الكنيسة، ومتى تعود الكنيسة إلى طبيعتها، مؤسسةً دينيةً، لا تمارس السياسة، بيعًا أو شراءً أو مضاربة؟.

الحاصل أننا بصدد حالة انسلاخ عنيفة من الدور والمعنى الحقيقيين لثنائي “تحالف القلنسوة والسيف”، بتعبير كارل ماركس، وهو يصف أوضاع فرنسا مع الثورة المضادة، وهي الحالة التي تلتهم المساحات الفاصلة، اللازمة والضرورية، بين سطوة الكهنوت واستحقاقات المواطنة، وهو ما تجده في كل فترات الانحطاط في تاريخ الدولة المصرية.

في كتابه “الدولة والكنيسة”، يقول المفكر القومي طارق البشري “لقد جاهدنا جهادا تاريخيا، بمسلمينا ومسيحيينا، على طول القرنين التاسع عشر والعشرين، لكي نتجاوز نظام الملّة، وننشئ الجماعة الوطنية المصرية، بما يكون لدولتها من هيمنة على جميع المواطنين بها، وبالتساوي في المعاملة، سواء في الشؤون الخاصة أو شؤون الولايات العامة. ولقد جاهد المسلمون منا في التجديد في الفقه الإسلامي، بما يسع مفهوم الجماعة الوطنية وأوضاع المساواة الكاملة في الولايات الخاصة والعامّة، وفي فرصها، وإن اختلفت الأديان.

وبعد أن استقرّ هذا الوضع كأصول ثابتة في الفكر السياسي السائد لدى النخب المعبّرة عن الرأي العام الفعّال، والفكر الراجح لديه، فوجئنا، من بعض القائمين على الإدارة الكنسية، بمن يريد العودة من جديد لنظام الملة، ويسنده إلى أسس إسلامية، يراها جديرة بالاتباع”.

والحاصل أن الصورة الحالية تنطق بأننا عدنا إلى ما قبل بلورة مفهوم “الجماعة الوطنية” إطارا جامعا لمشروع التحرّر الوطني من الاستعمار الأجنبي في القرنين الماضيين، واخترقنا الحضيض إلى ما هو أسفل، ذلك أن ما يجري الآن هو محض تعبيرٍ عن تحالف براغماتي، بين سلطتين عسكرية وطائفية، ينذر بالخطر على جمهور الكنيسة، وجمهور الوطن، معًا.

إنهما يواصلان اللهو بأعواد الثقاب، منذ دشّنا مشروعهما المشترك للاستثمار الطائفي، عقب الإعلان عن جريمة إعدام المصريين المسيحيين في ليبيا عام 2014، ليهبط السيسي على الكنيسة، ليقول ما مضمونه “أنا نصير الأقباط”، معطيًا إشاراتٍ صريحةً بأن لسلطة الانقلاب العسكري علاقات خاصة مع الأقباط، تتأسّس على أرضية الطائفة، لا المواطنة، بما يلقي على مصر أعباءً وأثمانا اجتماعية وسياسية باهظة، بعد نهاية هذه المرحلة العابثة، طال الزمان أم قصر، وأظنه لن يطول.
=============
نقلا عن “العربي الجديد”

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها