نصرٌ وريادة بعد ضعف وقلة حيلة

- ‎فيمقالات

سنتنان اثنتان تفصلان بين حال الضعف والقلة التى كان عليها المسلمون، وحال الإمامة والريادة، والفتح والظهور. أما الأولى فتلخصها مناجاة النبى -صلى الله عليه وسلم- ربه يوم عودته من الطائف (شوال من السنة العاشرة للبعثة)؛ إذ يقول: «اللهم أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين! إلى من تكلنى؛ إلى بعيد يتجهمنى، أم إلى قريب ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك علىّ غضب فلا أبالى، ولكن عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة؛ من أن ينزل بى سخطك أو يحل علىّ غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».

فمن يقرأ هذه الكلمات يدرك ما كان يعانيه المعصوم -صلى الله عليه وسلم- وهو أوسع الناس صدرًا، وأكثرهم حلمًا، وأوفرهم عفوًا وصبرًا؛ لكن أذى الكفار له ولأصحابه ودعوته على مدى السنوات العشر فاق التصور حتى أفضى إلى ربه بهذا الوجع الذى منشؤه العجز وقلة الحيلة، فى مقابل طغيان الخصم وفساد ذمته، وضربه بالأخلاق والقيم عرض الحائط.

وفى أقل من سنتين ينقلب الحال، ويصير الضعيف قويًّا، وإمامًا ورائدًا، ويعقب ذلك نصرٌ وفتح وقيام دولة هى أقوى الدول، وحضارة هى أعظم الحضارات، وأمة هى خير أمة أخرجت للناس. إنه السعى والعمل، والثبات على المبدأ، واليقين فى الله والثقة فى وعده. شتان بين محمد المتجرد من كل قوة وبأس على مشارف مكة قادمًا من الطائف بعد رحلة مليئة بالانكسار، وقد ألقى همومه على مولاه، وفوّض إليه أمره، وقد بلغ منه الجهد مبلغًا -وبين محمد -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء وهو يؤم النبيين جميعًا فى بيت المقدس، وهو يصعد إلى ربه حتى يبلغ موضعًا لم يبلغه مخلوق قبله، وهو يتقدم إلى ربه فيخترق، ويخشى الأمين جبريل –على مكانته- على نفسه أن يتقدم فيحترق.

إنه الاصطفاء، والنبوة الخاتمة.. والمقام مقام مكافأة وتقدير، ومقام تولية هذا النبى الصالح ريادة الخلق؛ فشرع له ربه عماد الدين: الصلاة، وبين له الحرام والحلال، والخبيث والطيب، وعرض عليه إخوانه الأنبياء، واحدًا تلو الآخر، كلهم يقرُّ له بالريادة، والأفضلية؛ فما بعد هذا اليقين من يقين، وما بعد هذا الفضل من  فضل، ولئن ذاق ابن عبد الله بؤسًا عظيمًا فى سنواته الاثنتى عشرة الماضية؛ فإن ماعاينه الساعة قد أنساه ذلك البؤس، وإن فضل المنان عليه قد أسبغه حتى قام فتفطرت قدماه، فأشفقوا عليه فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».

إن القوى لن يظل قويًّا مدى الحياة، والضعيف لن يبقى ضعيفًا أبد الآبدين، والكيس من سار على درب الهادى البشير، وأيقن أن عافية الله هى المنجية من كل بؤس وابتلاء؛ فمن كان يصدق أن ذلك النفر القليل الذين حوصروا فى الشِعب حتى أكلوا ورق الشجر وحتى خرج زعيمهم وقت الظهيرة يبحث عن لقمة يتقوت بها من جوع ضار فلا يجد.. وقد صاروا بعد بضع سنوات قادة العالم، رواد الدنيا، وحتى جاء من بعدهم من خاطب السحابة قائلاً: «شرّقى أو غرّبى فإن خراجك عائد إلينا»..

ومن كان يصدق أن فى هذا اليوم السعيد تُنزع السلطة من يد اليهود ليتسلمها محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ هذا جزاء الصبر، والصدق، والوفاء. لقد عُلم منه البر والرحمة بالخلق، والمروءة والعفو، وعُلم منه الدين والعناية بالشرع والجهاد والدعوة؛ فاختير لأن يكون رسولًا للناس كافة، رحمة للعالمين، واختيرت أمته لتكون الأمة الوسط، الشاهدة على من قبلها، بديلاً عمن خانوا العهد، وفرطوا فى الأمانة، وأوقدوا نار الحرب، وقالوا سمعنا وعصينا، وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وابتغوا الفتنة، واشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، وقتلوا أنبياءهم ورسلهم..

لقد قيل له فى هذا اليوم، بلسان الفعل والحال، وهو أبلغ من المقال: لا فضل لأمة على أمتك، ولا زعامة على الناس إلا لها، ولا فضل لنبى عليك، والمسجدان ملك لكم؛ الذى فى موطنك وانطلقت فى رحلتك منه، والآخر الذى ربطت فيه دابتك، كلاهما لمن اؤتمن على وحى السماء، فلا ينازعك فيهما إلا ظالم جرىء على حدود الله، وكذلك الأرض الطيبة التى حول الأقصى -جميعها- هى ملك أمتك، تبسطون عليها سلطانكم؛ لأنها ستشهد أحداثًا فاصلة، وحسمًا للصراع الدائر بين الحق والباطل. ولا يخطئ قارئ «الإسراء» سر افتتاح السورة بسطرين فقط عن الواقعة، ثم الحديث الممتد عن اليهود وما أعقبه من حديث عن العقيدة، والآخرة، والأخلاق، وأسباب هلاك الأمم، والحديث عن إبليس، والمنافقين، وما بين كل واحدة وأخرى حديث عن القرآن، وفضله على المستمسكين به.

لم أشأ سرد قصص الإسراء كما يحلو ذلك للبعض؛ لأن دروسها أعظم من ذكر رواياتها، خصوصًا هذه الأيام؛ لما تمر به الأمة من ظروف ضعف وهوان جعلتها أقل الأمم شأنًا على خارطة الدنيا، ولا منجى لها إلا باتباع الدين، ونفض أى أفكار أو مذاهب أخرى لا تعى حقيقة الصراع بيننا وبين خصومنا، الأقربين والأبعدين..

كما أن الحادثة تبعث برسائل اطمئنان للمستمسكين بدين الله، القابضين عليه بأيديهم مخافة الفتنة فيه، تطمئنهم بأن كل آت قريب، وأن الله لا يخلف وعده، ومن يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا حول ولا قوة إلا بالله القوى المتين..

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها