هل تموت الديمقراطيات الراسخة؟

- ‎فيمقالات

ينتفض أصحاب “السترات الصفراء” في باريس، للمطالبة بوقف زيادة أسعار الوقود وارتفاع تكاليف المعيشة وزيادة الضرائب التي كانت حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون تنوي فرضها عليهم. في الوقت نفسه، يفوز الديمقراطيون بأغلبية مقاعد مجلس النواب الأميركي في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي قبل شهر، فيما اعتبره بعضهم “موجة زرقاء”، انطلاقاً من اللون الأزرق للحزب الديمقراطي. بينما تنجو رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، من العزل ومخاطر سحب الثقة من حكومتها، في تصويتٍ أجري في مجلس العموم البريطاني، الخميس الماضي.

مشاهد ثلاثة من ثلاثة بلدان، يصنفها الباحثون “ديمقراطيات راسخة”، هي فرنسا وأميركا وبريطانيا. ويمكن النظر إليها جميعاً بطريقتين مختلفتين، الأولى أنها تعكس أزمة عميقة تواجه الديمقراطية فكرة وفلسفة لممارسة السلطة، كونها تكشف تحولاتٍ جوهريةً، لم يكن أحد يتوقعها قبل سنوات قليلة. وهو ما دفع باحثين إلى الحديث عن “نهاية الديمقراطية” أو “موت الديمقراطيات”، كما فعل ستيفن ليتفسكي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، وأحد منظّري الجيل الثالث من الباحثين المتخصصين في مجال الانتقال الديمقراطي، في كتابه “كيف تموت الديمقراطيات؟” الذي كتبه مع زميله في الجامعة نفسها البروفيسور دانيل زابلات. أما وجهة النظر الثانية، فترى أن المشاهد الثلاثة تعكس حيوية الديمقراطية آلية حكم فعّالة وقادرة على تصحيح أخطائها، فليس في مقدور ماكرون أو تيريزا ماي أو دونالد ترامب أن يواجه مطالب منتقديه بالرفض أو بالقوة، كما تفعل الأنظمة السلطوية. أو أن يتخلص من معارضيه، بقتلهم أو تقطيع جثثهم بالمنشار، كما فعل ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مع الكاتب الصحافي جمال خاشقجي، لمجرد الاختلاف معهم في الرأي. أو أن يقصف مدن بلاده وقراها بالبراميل المتفجرة، مثلما يفعل بشار الأسد مع السوريين.

كلا وجهتي النظر تحملان بعضاً من الوجاهة والمنطق، فأنصار الأولى والأقرب إلى التشاؤم بشأن مستقبل الديمقراطية يرون أن الديمقراطيات قد تموت، ليس نتيجة استيلاء العسكر على السلطة، كما كانت الحال في النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما من خلال الأدوات الديمقراطية ذاتها، وأهمها الانتخابات التي يمكن أن تأتي بنخبٍ غير ديمقراطية، تقوم بتغيير قواعد اللعبة كي تستمر في السلطة، وذلك كما حدث في دول عديدة، مثل جورجيا، بولندا، فنزويلا، نيكاراغوا، البيرو، الفلبين، وسيريلانكا، وأوكرانيا. ففي هذه البلدان، لا تزال الانتخابات تجري بشكل منتظم، وهناك حرية للتعبير تختلف درجتها من مكان إلى آخر، لكن الأنظمة الحاكمة تقوم باستغلال المؤسسات السياسية والتنفيذية، إما لتخويف المواطنين من التغيير أو لفرض أعباء جديدة عليهم، تجعلهم منشغلين بأنفسهم وبحياتهم اليومية، من دون تفكير في كيفية الحفاظ على القيم الديمقراطية.

أما أنصار وجهة النظر الثانية، فيرون أن لدى الديمقراطية من الآليات والإجراءات والتقاليد ما يجعلها قادرةً على استعادة توازنها، بعد أن هددتها الحركات والأحزاب والشخصيات السلطوية أو الشعبوية، كما هي الحال الآن. ويرون أنها مهما حاول الحكام ذوو النزوع السلطوي، كما الحال مع ترامب، تخريب العملية الديمقراطية، فلن يتمكنوا نتيجة وجود “حائط” صد دستوري يمنع ذلك، ناهيك عن وجود مؤسسات وتقاليد سياسية مهمة، تجعل من التلاعب بالديمقراطية أو تخريبها أمراً صعباً. ويضربون المثل على ذلك من خلال تصدّى المؤسسات الأميركية، كالكونغرس والمجتمع المدني والإعلام، لمحاولات ترامب المستمرة تخريب الثقافة الديمقراطية الأميركية عبر ديماغوجيته وخطابه الغوغائي. من هؤلاء أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد الأميركية وأحد أهم منظّري الديمقراطية حالياً، لاري دايموند، ففي مقال حديث له في مجلة The American Interest يشير إلى أن ثقة الأميركيين في الديمقراطية لا تزال مرتفعة، على الرغم من حالة القلق التي انتابت كثيرين، بعد انتخاب دونالد ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 رئيسا. ويوجه دايموند نقدا شديدا للحزب الجمهوري الذي فشل في التصدي لترامب، منذ بدء الترشح للانتخابات، واستسلم لخطابه الشعبوي الذي لعب دوراً كبيراً في فوزه في الانتخابات.

وفي الوقت الذي تمر فيه الديمقراطية بوعكة صحية في مهدها الغربي حالياً، سوف تتعافى منها آجلاً أو عاجلاً، تتصاعد السلطويات المتوحشة في بلدان ومناطق أخرى، مثل العالم العربي الذي بات يمثل مدرسة قائمة بذاتها في صناعة الاستبداد. وهي الصناعة التي تحاول السلطويات العربية ترويجها وتصديرها إلى الخارج، سواء بتخريب المؤسسات والثقافة الديمقراطية في البلدان الراسخة ديمقراطياً في أوروبا وأميركا، أو من خلال شراء تدمير ديمقراطيات ناشئة، كما فعلت السعودية والإمارات مع الربيع العربي.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها