التحقيق في وفاة “العريان” .. والظلم المعشش في أرجاء مصر

- ‎فيأخبار

 

كان الداعية الإسلامي الكبير وفارس المنبر فضيلة الشيخ عبدالحميد كشك ــ عليه رحمة الله ــ يقول في بعض خطبه إن 99% من الظلم يعشش في مصر وحتى القدر الضئيل المتبقى يطوف العالم كله ثم إذا جن الليل يأتي ليبيت في القاهرة.

كلام "كشك" لم يأت من فراغ، فالرجل عاين بنفسه شيئا من أهوال التعذيب الوحشي في سجون الديكتاتور جمال عبدالناصر، والذي خصص القسم الأكبر من ظلمه وجبروته لكثير من الدعاة إلى الله وخصوصا أبناء الإمام الشهيد حسن البنا من قادة وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وهي الأهوال التي وثقتها كتب عديدة وشهادات موثقة لمن عاينوها.

ويحكي القرآن الكريم كيف جرى الزج بنبي الله يوسف عليه السلام في السجن ظلما بضع سنين بعدما رأوا الآيات المبرهنة على براءته وكيف تورع عن السقوط في فخ الفاحشة مع امرأة العزيز وترفع عن اتباع الشهوات مع نسوة مصر اللاهيات، "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين"!

 

هل يتعظ الفراعين؟

مصر التي لم يستنكر القرآن جيشا كجيشها وحاكما كحاكمها "فرعون" فإذا بالقرآن يسرد ظلمه وبطشه بالأبرياء في مئات المواضع؛ عل ذلك يكون عبرة وعظة للفراعين اللاحقة، حتى إن نبي الله موسى عليه السلام فر منها خائفا يترقب، لكن يبدو أن الطغاة والفراعين وضعوا أصابعهم في آذانهم وضربت الغشاوة أبصارهم، فباتوا من شدة ظلمهم وفجورهم يرمون الأبرياء بالتهم والافتراء ظلما وزورا. فاستحقوا الهلاك، فلم يصف القرآن جيشا بالظلم والبطش إلا جيش مصر في عهد فرعون.

ورغم هذه البراهين الساطعة لا يرى العسكر وآلتهم الإعلامية سوى آية واحدة "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين". متجاهلين مئات الآيات التي تستنكر مصر الظالمة وحكم الفراعين الجبابرة. فالعبرة بنظام الحكم ومدى انحيازه للعدل والحرية والرحمة بالناس كل الناس، كما كان في عهد يوسف عليه السلام. أما عندما حكمها جبار عنيد "فرعون" علا في الأرض وجعل أهلها شيعا وكرس خطاب الكراهية والتمييز، يستضعف بعض الناس يذبح الأبرياء بلا تهمة، وينشر الفساد والإرهاب في الأرض تحت لافتة الإصلاح الخادع والوطنية الزائفة، هلك وهلكوا جميعا. فهل يعتبر الطغاة أم أن خطاب القرآن لا يعنيهم؟

واليوم، وبعد آلاف السنين، لا يزال الظلم يعشش في جنبات مصر لا يبرحها لمكان آخر، ولا يزال هناك "فرعون" آخر ممسكا بسيف القوة صارخا في الناس: "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟" ، ولا يزال الآلاف كيوسف عليه السلام قابعين في سجونها لما يخرجوا بعد، وفر الآلاف منها كموسى عليه السلام، مهاجرين إلى مكان ينعمون فيه بالأمان المفقود في بلاد النيل، فأصحاب المبادئ والنبل والشرف باتوا غير آمنين في عهد انقلاب 30 يونيو 2013م.

 

رسالة من "العقرب"

ومنذ يومين، نشر موقع "الجزيرة مباشر" رسالة خاصة من نزلاء سجن العقرب، نعوا فيها الشهيد الدكتور عصام العريان، داعين إلى فتح تحقيق شفاف في ملابسات وفاته الغامضة، مؤكدين أن "العريان" لقد لقي ربه دون أن يغير أو يبدل، أو يتنازل عن قيمه ومبادئه رغم ما تعرض له من إيذاء وتعذيب وحرمان، فقد ظل على مدار سبعة أعوام في مقبرة العقرب، في الحبس الانفرادي، بلا هواء ولا ضياء منع عنه العلاج وحرم من أبسط حقوقه الإنسانية، وهو الحق في رؤية أهله. ولم تشفع له استغاثته التي صرح بها أمام قضاة العسكر في قاعة المحكمة على مرأى ومسمع من العالم كله، وظل مع كبر سنه وما يعانيه من أمراض في هذه المقبرة اللعينة، مقبرة العقرب، يُقتل عمدًا مع سبق الإصرار والترصد بلا رحمة ولا إنسانية.

رسالة سجناء العقرب تحمّل طاغية الانقلاب عبدالفتاح السيسي المسئولية كاملة عن مقتل العريان ويشاركه في الجريمة والمسئولية وزير داخليته ورئيس مصلحة السجون وإدارة سجن العقرب وعلى رأسهم مفتش المباحث أحمد أبو الوفا، ورئيس المباحث محمد شاهين. اللافت في الرسالة أنها ضمت أسماء كبيرة بات وضعها حرجا داخل السجون في ظل الحرمان من كل شيء وعلى رأسهم المهندس خيرت الشاطر، والدكتور أحمد العجيزي، والدكتور عصام حشيش، والدكتور محمود غزلان وغيرهم الكثير.

ورغم هذه الوحشية التي لا مثيل لها سوى في سجون طغاة العرب من أمثال بشار وحفتر ومحمد بن سلمان ومحمد بن زايد، فإن المعتقلين بالعقرب في رسالتهم أكدوا أنهم لن يلينوا ولن يفرطوا في الدين والوطن ولن يعترفوا مطلقا بهؤلاء القتلة وأنهم لا يزالون مضربين منذ وفاة العريان حتى كتابة الرسالة.

 

قتل متعمد

وأصدرت جماعة الإخوان المسلمين تصريحات رسمية تشير إلى أن استشهاد العريان لم يكن فقط بالإهمال الطبي المتعمد، بل نتيجة تعذيب تعرض له من إدارة العقرب. وبرهنت على ذلك بأن إدارة السجن رفضت تسليم جثمان العريان إلى أسرته ومنعتهم من حضور تغسيله وتكفينه ودفنه بل ومنعتهم من رؤيته إلّا داخل المقبرة، من دون السماح لهم باصطحاب هواتف نقالة أو أي كشافات إضاءة للحيلولة دون رؤيته بوضوح". وأكدت أن ما حدث "سابقة لم تحدث من قبل مع أي متوفٍ داخل السجون". وأوضحت أنه "جرت العادة وفق القانون على تسليم الجثمان لأهل المتوفي للقيام بكل الإجراءات حتى يتم دفنه". وأشارت إلى أن "ذلك يعزز رواية تعرضه لجريمة اغتيال". وفي البيان ذاته، قالت جماعة الإخوان إنها "تطالب المجتمع الدولي وجميع المنظمات الحقوقية والقانونية الإقليمية والدولية بسرعة التحرك للتحقيق في أسباب الوفاة". ودعت لـ"تشكيل لجنة طبية دولية موثوقة تقوم بفحص جثمان الشهيد الراحل وبيان الحقيقة للرأي العام".

فهل يمكن للظالمين أن يحققوا العدل؟ ذاك هو المستحيل بعينه، ولكن كل يوم يحمل أملا جديدا وتجارب التاريخ تؤكد أن كل الطغاة هلكوا غير مأسوف عليهم. إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا.