“التفاهة” إذ تتمدد بفعل فاعل

- ‎فيمقالات

بعد الهزيمة الكبرى للجيش المصري في حرب يونيو 1967 سادت حالة من الإحباط في المجتمع المصري، وكان أحد إفرازات هذه الحالة هو الهبوط الفني المريع، حيث الأفلام البعيدة عن الواقع، والمغرقة في الرومانسية والمراهقة والمشاكل الزوجية والعاطفية والكوميدية والتي تصرف الناس عن السؤال لماذا حدثت الهزيمة ومن المسؤول عنها، وكم سيعاني الوطن بسببها؟ وعقب انقلاب الثالث من يوليو 2013 سادت موجة إحباط جديدة، وتحلل من القيم الدينية والأعراف المجتمعية غذتها السلطة الحاكمة لتصرف الناس أيضا عن الانشغال بالسياسة والشأن العام، فزادت ظاهرة تعاطي المخدرات بشكل علني على المقاهي وفي الشوارع وحتى في اماكن العمل، وزادت جرائم التحرش والاغتصاب، وانتشرت الأغاني الهابطة انتشار النار في الهشيم، ولم تعد هذه الأغاني مقصورة على الأفراح الشعبية أو مع سائقي التوك توك، ولكنها وجدت طريقها أخيرا إلى استاد القاهرة الدولي في حماية السلطة بل بتنظيمها.

أغاني الفحش
يوم الجمعة الماضي وبحضور حوالي مائة ألف مواطن، تعالت في جنبات الاستاد الدولي أغاني الفحش والفجور التي تروج للخمور والمخدرات وتدغدغ غرائز الشباب العاطفية حول “بنت الجيران”، لم تكن تلك الأصوات منبتة الصلة عن الواقع حولها، بل هي جزء أصيل من التغيرات الكبرى التي يشهدها المجتمع المصري منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 وحتى الآن في ظل تغييب الدعاة والمصلحين في القبور أو السجون أو المنافي، والتضييق على من تبقى منهم، وإغراء سفهاء المجتمع بهم، ما جعل الكثيرين منهم يؤثرون السلامة ويتجنبون مصيرا قاسيا في السجون والمعتقلات، وفي ظل تصاعد ما يسمى بتطوير الخطاب الديني والذي يستهدف تفريغ القيم الدينية من محتواها، وشرعنة الخروج عليها تحت لافتة العصرنة والتحديث.

لا تخدعنا تلك البلاغات التي قدمت ضد بعض الفنانين أو مسؤولي الاستاد الذين سمحوا بذاك الحفل، ولا تلك القرارات التي أصدرتها نقابة المهن الموسيقية بمنع التعامل مع مجموعة ممن يصفون أنفسهم بالفنانين الشعبيين، لأنهم سيرفعون دعاوى ضدها ويكسبونها ( لو راجعت قائمة الأسماء ستجد أنك أمام أسماء لتجار مخدرات ..أبو ليلة..الديزل..العصابة..المدفعجية..حسن شاكوش..ريشة كوستا..الدخلاوية..حمو بيكا..شواحة..فرقة الكعب العالي..الخ الخ) وتلك القرارات وإن كانت صائبة، وتمثل استجابة لغضبة شعبية عبرت عنها وسائل التواصل الاجتماعي إلا أنها أصابت القشور وتركت الجذور، فالمجرم الحقيقي فيما حدث هي شركة تابعة للمخابرات المصرية هي التي نظمت ذلك الحفل، إنها شركة “تذكرتي” التابعة لشركة بريزنتيشن التابعة بدورها لشركة إعلام المصريين المملوكة بالكامل لشركة “إيجل كابيتال” التابعة للمخابرات، والتي تديرها الوزيرة السابقة داليا خورشيد زوجة محافظ البنك المركزي طارق عامر.

البداية الحقيقية:
معرفة المجرم الحقيقي هي البداية الحقيقية لمعرفة ما يجري في المجتمع المصري من تغييرات اجتماعية وثقافية لا تتم من خلال تدافع وتطور طبيعي ولكنها تتم بفعل فاعل، والفاعل هنا أصبح معروفا وهو “عصابة الجنرالات” الذين استولوا على الحكم بقوة السلاح، ويريدون البقاء في الحكم دون إزعاج من الشعب، وبالتالي فمن الضروري تغييب وعي هذا الشعب، وتسطيح فكره، وإغراقه فيما يدمر أخلاقه فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، ويحمد ربه على نعمة البقاء على وجه الأرض ولا يشغله الحصول على أي حقوق.

تمزيق المجتمع كان من أولويات الحكم الانقلابي فهو حكم لا يستطيع البقاء في ظل شعب موحد، وقد استقى هذه النظرية من أسياده المستعمرين من قبل الذين نشروا مبدأ “فرق تسد”، ففرق المصريين وقسمهم إلى شعبين، وغنى مغنية “انتو شعب وإحنا شعب ليكوا رب ولينا رب” وتبارت الأذرع الإعلامية للنظام في نشر هذه الأغنية وجعلها نشيدا وطنيا، وتفسيخ المجتمع بما فيه الجزء الذي دعم الانقلاب على الشرعية والثورة جعلها أولوية أيضا للنظام حتى يستمر هذا الجزء مغيبا عن حقيقة ما يجري حوله، ولا يستعيد وعيه، لأن استعادة هذا الوعي ستكون وبالا على النظام الحاكم، ومن هنا فقد تركت الشرطة ظاهرة تعاطي وتجارة المخدرات تتنامي بشكل مرعب (ضعف المعدل العالمي) حتى أصبحت طبيعية تماما مثل السجائر العادية، وحتى إنها غزت قرى محافظة لم يكن معروفا أن شبابها يدخنون السجائر أمام آبائهم وأمهاتهم، ثم ها هي الأغاني التافهة تغزوهم في دارهم، وتجهز على ما تبقى من أخلاق ومبادئ برعاية رسمية.

الانسلاخ عن الواقع:
تغييب الوعي بفعل فاعل هو ذاته ما حدث عقب هزيمة 1967، حيث كانت الدولة هي التي تهيمن على سوق الفن (بعد تأميم الشركات الخاصة) ووفقا لدراسة للمخرج والأكاديمي الراحل محمد كامل القليوبي ( القاهرة 5 -7-2011) فإن سينما ما بعد الهزيمة “انسلخت عن الواقع انسلاخاً مخيفاً وانصرفت عنه إلي المزيد من العزلة عن الشعب، ولقد كان من المفجع حقاً أن صدمة الهزيمة لا تكاد تجد تعبيراً عنها في أخطر أدوات الاتصال الجماهيرية، فخلال عام 1968 قدمت السينما المصرية من بين ثمانية وثلاثين فيلما هي مجمل انتاجها خلال ذاك العام سبعة أفلام عن مشاكل المراهقة، وخمسة عشر فيلماً عن مشاكل زوجية وعاطفية وسبعة أفلام مغامرات بوليسية، بينما شكلت الأفلام الكوميدية من مجمل أفلام ذاك العام سبعة عشر فيلماً وفي عام 1969 ومن بين أربعة وأربعين فيلما قدمتها السينما المصرية قدمت ستة أفلام عن مشاكل المراهقة وسبعة عشر فيلماً عن مشاكل زوجية وعاطفية، وأحد عشر فيلما مغامرات بوليسية، وخمسة أفلام أبطالها راقصات ومطربات ومشاكلهن وحياتهن الخاصة، وفي عام 1971 قدمت السينما المصرية ثمانية وأربعين فيلما منها ثمانية عشر فيلما عن مشاكل زوجية وعاطفية، وتسعة عشر فيلم مغامرات بوليسية، وثلاثة أفلام عن مشاكل الراقصات والمطربات، وفيلمين عن مشاكل المراهقة “، ومن الواضح أن ذلك تم بتوجيه أو على الأقل بقبول من السلطة التي كانت تهيمن على العمل الفني في ذلك الوقت، وهو ما يتكرر حاليا، وعلى العكس من ذلك تماما فحينما أرادت السلطة العسكرية قبيل حرب 1973 التهيئة المعنوية للحرب فقد حركت القوافل الدعوية بقيادة كبار الدعاة إلى الجبهة لبث روح الأمل والثقة في الجنود والضباط، وظل هذا التوجه مستمرا بعد الحرب فيما عرف بدولة العلم والإيمان بغض النظر عن صدق أو كذب الرئيس الراحل السادات في تبني هذا الشعار، لكن هذا يؤكد لنا مجددا تدخل السلطة في تخريب عقل الشعب أو حتى “تديينه”.