الجنرال عاريا في مواجهة الغاضبين

- ‎فيمقالات

ثمة متغيرات على الساحة المصرية فجرتها الفيديوهات الأخيرة للمقاول والفنان محمد علي التي فضح فيها مشروعات الهيئة الهندسية للقوات المسلحة وانطلق منها لفضح نظام السيسي برمته ومن ثم الدعوة للثورة عليه، وهو ما يبدو أن النظام تعامل معه بجدية (حتى لو ظاهريا)، فدفع رجاله وأذرعه الإعلامية والفنية للمواجهة الشاملة ناهيك عن الاستعدادات الأمنية المكثفة..

بدا الأمر بسيطا في البداية، بعض فيديوهات تحمل معلومات محددة عن مشروعات بعينها، وأسماء جنرالات مقربين من السيسي إضافة إلى اسم زوجته (انتصار) الذي كان قاسما مشتركا بين بعض المشروعات مثل الاستراحات الشاطئية وقصر حلمية الزيتون، لكن كرة الثلج كبرت مع الوقت، ولم تتوقف عند ذلك الحد، بل لم تقتصر على محمد علي الذي انضم له آخرون عانوا من فساد المؤسسة العسكرية، وظهروا في فيديوهات فاضحة لبعض المشروعات والصفقات أيضا، كما ظهر البعض من داخل مصر وخارجها داعما ومؤيدا لدعوات الخلاص من النظام.

وراء الأكمة
كانت هناك قناعة لدى الكثيرين من البداية أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن محمد علي ليس مجرد شخص، ولكنه مدعوم من آخرين سواء داخل النظام أو من مطاريده من الأجهزة الأمنية وخاصة المخابرات العامة، ويبدو أن هذه القناعة لم تتوقف عند بعض النخب أو حتى عوام الشعب، بل إنها سيطرت على تفكير السيسي شخصيا والمقربين منه، لذا لم يجد بدا من عقد مؤتمر استثنائي للشباب كان مقررا له ديسمبر المقبل، حتى يتمكن من الرد على المقاول الفنان محمد علي رغم أن كل الأجهزة الأمنية والاستشارية نصحته بعدم الحديث في موضوع محمد علي حتى لا يمنحه المزيد من الانتشار والتأثير.

لو كان السيسي عاقلا لاستمع لنصائح مستشاريه، ولكن أنى له العقل، وقد تمكن منه الكبر والغرور حتى إنه لم يعد يرى نفسه أقل من محمد علي باني نهضة مصر الحديثة، فكيف يكون لمحمد علي قصور ولا يكون له قصور مماثلة (هذا ما قاله في المؤتمر)، وإذا استمر السيسي مزيدا من الوقت فإنه على الأرجح سيقول بلسان الحال أو ربما لسان المقال “أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي”.

استكبار السيسي على نصيحة مستشاريه أوقعه في الفخ، فلا هو استطاع نفي ما ذكره محمد علي من حقائق، ولا هو صمت عنها، بل إنه على العكس من ذلك وسواء بقصد أو دون قصد أكد صحتها، وهو ما منح صاحبها مددا جديدا، وجعله صاحب الكعب العالي، والفائز بالجولة الأولى، وهو ما شجعه على مواصلة مطاردة السيسي بمزيد من الفيديوهات التي وصل فيها إلى الدعوة للثورة عليه، وتحديد موعد لمظاهرات ضده مساء الجمعة المقبل، وقد سبق ذلك بإطلاق هاشتاج (كفاية بقى يا سيسي” الذي كسر حاجز المليون تغريدة خلال 24 ساعة تقريبا ليتصدر الوسوم عالميا وليس فقط مصريا، وليبرهن على التفاف شعبي كبير خلف هذه الدعوة الإلكترونية، لكن ليس مؤكدا أن الاستجابة للدعوة الإلكترونية تعني انتقالها إلى أرض الميدان فلهذا الأخير كلفته الغالية التي قد تصل إلى القتل وفي الحد الأدنى الاعتقال، ومع ذلك لا يمكن التنبؤ بمجريات الأحداث قبل يومين من موعد المظاهرات التي دعا لها، فكم ذا بمصر من المفاجآت التي كانت ثورة يناير 2011 أكبرها، والتي لم تستطع لا مخابرات مبارك ولا المخابرات الأمريكية أو البريطانية التنبؤ بها، بل إن أصحابها أنفسهم لم يكونوا يتوقعون أن تصل إلى ما وصلت إليه وكان جل أمنياتهم هو تغييرات سياسية يجريها مبارك مثل إطاحة وزير الداخلية ومنح المزيد من الحريات العامة مع بقاء النظام.

حالة طوارئ
دعوة محمد علي للثورة على السيسي والتظاهر ضده أربكت النظام بالفعل، وجعلته في حالة طوارئ قصوى تضمنت منع العطلات الاعتيادية لرجال الجيش والشرطة، كما تم اعتقال رموزا كبرى مثل الناشط اليساري الكبير كمال خليل، وعدد آخر من النشطاء، وكذا اعتقال اثنين من المحامين أعلنا أنهما سيتقدمان ببلاغات للنائب العام للتحقيق فيما تضمنته فيديوهات محمد علي من أوجه فساد.

يشعر النظام أن شيئا ما يخطط في الكواليس ضده، شبيه بما أتى بهذا النظام نفسه من قبل، حين تم تشكيل حركة تمرد داخل أروقة جهاز المخابرات الحربية، وإطلاقها وتسهيل مهمتها في جمع توقيعات ثم التظاهر للمطالبة برحيل الرئيس الشهيد محمد مرسي في 30 يونيو 2013، وتحوم شكوك النظام حول بعض الأجنحة الغاضبة داخل المؤسسة العسكرية التي تشعر بالإهانة مما أوصل السيسي الجيش إليه حين كلفه ببيع الخضروات والأسماك في الشوارع الخ، ومع شعور نظام السيسي بخطر يتهدده فقد أطلق العنان لرجاله للمواجهة، ودفع العديد من الأشخاص سواء كانوا عسكريين سابقين،أو محامين نفعيين، أو حتى أفراد أسرة محمد علي لتشويه المقاول الفنان، وشن هجمات مضادة له ولغيره ممن ينقلون وقائع الفساد داخل المؤسسة العسكرية، وكانت ذروة الاحتياطات حين تترس السيسي بالجيش مجددا في مؤتمر الشباب الأخير عبر زعمه أن الحملة تستهدف النيل من القوات المسلحة وإضعافها في محاولة لوضع الجيش معه في سلة واحدة.

تزامن مع هذه المخاوف نشر الكاتب الصحفي المقرب للسيسي وهو ياسر رزق رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم مقالا صحفيا بشر فيه ببعض التغييرات السياسية والإعلامية قبل نهاية العام، تشمل فتحا نسبيا للمجال السياسي والإعلامي ولكن في إطار فريق 30 يونيو فقط دون السماح لغيرهم من قوى يناير أو الإخوان بالاستفادة من هذه التغييرات، والتي تطيل عمر نظام السيسي حتى العام 2030 لاستكمال بقية البرامج والمشروعات!!!

طرح ياسر رزق
لم يتضمن طرح ياسر رزق جديدا يمكن أن يقنع أحدا، بل هو مجرد نقل أعمى من كتاب الستينيات الذي تضمن عبارات مثل “لا حرية لأعداء الوطن”، فحتى شركاء السيسي في 30 يونيو هم رهن الحبس الآن، ولو كانت هناك نية حقيقية لمثل تلك التغييرات التي ذكرها ياسر رزق وادعى أن لديه معلومات عليها، فهو “لا يقدح من رأسه”، فإن البرهنة العملية على ذلك تبدأ بإطلاق سراح أولئك السجناء مثل سامي عنان وهشام جنينة وحازم عبد العظيم، وأحمد دومة وكمال خليل الخ الخ.

ما يزيد نسمات التغيير في مصر انشغال حلفاء السيسي الإقليميين والدوليين بمشاكلهم الخاصة فها هو بن سلمان مشغول حتى شعر رأسه بالضربات الموجعة التي وجهها لها الحوثيون وأفقدته نصف نفطه في ضربة واحدة فما بالك لو تواصلت الضربات الجوية المسيرة؟!، وها هو صديقه نتنياهو مشغول في انتخابات نيابية سبقها وقد يلحقها أيضا تحقيقات في جرائم فساد، وها هو ترمب مشغول أيضا باستعداداته للانتخابات الرئاسية المقبلة، كما أن رياح الثورة والديمقراطية تحاصر نظام السيسي من الجنوب ( في السودان) ومن الغرب في ليبيا التي فشل حليفه حفتر في دخول عاصمتها طرابلس رغم مرور خمسة أشهر على حملته، أو تونس التي أجرت انتخابات رئاسية فاجأت نتائجها الجميع، أو الجزائر التي تستعد لانتخابات رئاسية بعد ثورة امتدت على مدى الأشهر الستة الماضية ونجحت في التخلص تدريجيا من أركان النظام القديم.

تحكي كتب التراث أن ملكا مغرورا، مغرما بحب الزينة والملابس الفاخرة أكثر من اهتمامه بشؤون الشعب والفقراء تعرض لخديعة من خياط محتال عرف نقطة ضعفه فعرض عليه حياكة ثوب سحري لا يراه إلا الحكماء ومن يستحقون المناصب في المملكة، وجاء الترزي “الخياط” ليلبس الملك الثوب السحري، وحين لم يجد الملك شيئا كاد أن يفتك بالخياط لكنه خشي أن يتهم بأنه ليس حكيما لأنه لا يرى الثوب فصاح ما أجمله من ثوب!!، وخرج على وزرائه عاريا ليطلب منهم رأيهم في الثوب الجديد، ولأنهم منافقون بالفطرة ولأنهم خشوا سحب صفة الحكمة عنهم فقد تظاهروا بالإعجاب بالثوب السحري (غير الموجود أصلا) ولم يفضحهم جميعا سوى طفل بريء صرخ “إني أرى الملك عاريا”

الملك المعتوه
يعيش السيسي حاليا وضعا مماثلا لذلك الملك المعتوه، فهو يبني القصور والاستراحات، ويعلن عن مشروعات كبرى لا يراها أحد، ويعقد الصفقات المليارية مع العديد من الحكومات طلبا لدعمها السياسي، وينافقه وزراؤه وجلساؤه مشيدين بحكمته، وقوته وبراعته، حتى جاء مقاول غير مشهور لينطق كما نطق الطفل البريء “إني أرى الملك عاريا” وليبدا المغيبون جميعا في رؤية هذا الملك عاريا بعد ان كانوا يوهمون أنفسهم أنه يرتدي ثوبا سحريا عظيما.

في ظل حالة الانكشاف والفضائح الداخلية، والتطورات الإقليمية والدولية التي تشغل كفلاء السيسي، يقف الجنرال عاريا في مواجهة شعب أعزل، لكنه مؤمن بحقه في الحرية والكرامة ولقمة العيش، شعب صبر كثيرا على الظلم والهوان لكن لصبره حدودا وقد نفدت، ولحركته أوان وقد حان..

نقلا عن “الجزيرة مباشر”