الجيش الأسود

- ‎فيمقالات

لم يزعم أطباء مصر أنهم "الجيش الأبيض"، ولم يطلبوا من أحد أن يمنحهم هذا اللقب، غير أنه في مناخٍ طافحٍ بالعسكرة، وملبد بأبخرة تقديس الجيش والشرطة، تسربت هذه التسمية شيئًا فشيئًا لتفرض نفسها على النقاش العام. ومع الإلحاح، صارت من المقولات الدارجة في مواجهة وباء كورونا.
الأرجح أن من أطلقها انزعج من مشاعر ود وامتنان بسيطة، عبّر عنها المواطنون بتلقائية صادقة تجاه العاملين بالطب والتمريض الذين يكافحون الوباء في ظروفٍ بالغة الصعوبة، ويموت منهم أطباء وممرّضون، فلم يتخيل أو يقبل أن تكون هناك بطولات أو تضحيات من خارج القطاع العسكري، فقرّر أن يلحق الأطباء بالجيش ويعطيهم اللون الأبيض، من دون أن يتمتعوا بواحدٍ على الألف من امتيازات الجيش التقليدي.

الشاهد أن هناك جهة في مصر متفرّغة لإنتاج طقس عام من الكراهية المجتمعية، بمعدّلات يومية لا تتوقف، سمّها "الادارة العامة للجنون في مصر "، أو قل "الهيئة الوطنية للمحافظة على بيئة الاستقطاب"، أو اختصارًا، سمّه "الجيش الأسود" الذي تتولى قواته مهمة بث كل أنواع وألوان جراثيم الكراهية والاحتراب بين مكوّنات المجتمع، بالاعتماد على مخزونها من الاستحمار المنضب الذي توصلت إليه، واحتفظت بها منذ العام 2013 ، ولا تتوقف عن استخدامه، فتطلق رشقاتٍ من صواريخ الاتهام بـ "الأخونة" على كل من يعترض أو يحتج أو يناقش أو يتألم أو حتى يتنفس.

في الساعات الماضية، كان هذا "الجيش الأسود" يشن غاراته بفظاعةٍ غير مسبوقة على أولئك الذين أطلق عليهم "الجيش الأبيض" رغم أنفهم، ويجرّدهم من وطنيتهم وإنسانيتهم، بل ويصل في استحماره إلى مرحلة اعتبار الطب مهنةً لا لزوم لها من الأصل، وأن مصر تستطيع أن تنتصر على كورونا، من دون أطباء، إلى آخر هذا الهراء المكثف الذي تمت تغذية السجالات الافتراضية وغير الافتراضية به طوال اليومين الماضيين، حتى بلغ حد اعتبار التفوّق الدراسي جريمة، وأن الالتحاق بما تسمّى كليات القمة والتخرج منها مخطط إخواني قديم.

كل هذه الهستيريا، المنتجة في معامل السلطة المركزية، اندلعت، لأن العاملين في القطاع الطبي صرخوا ألمًا، وهم يشاهدون الموت يحصد زملاءهم بالجملة، ولا يستطيعون إنقاذهم، حيث يعملون في مستشفياتٍ بلا مقومات بشرية أو إمكانات مادية أو تجهيزات طبية، لتنطلق على الفور غاراتٌ مجتمعيةٌ مكثفةٌ تستهدف تطهير أرض مصر من فلول الأطباء والممرّضين، الخونة المتأخونين، الذين يتآمرون على الشعب ويتركون ميدان المعركة، ولابد من اعتقالهم ومحاكمتهم عسكريًا، بل وتجريدهم من شهاداتهم العلمية، وغير ذلك من ضروب الجنون والسفه التي تابعها ملايين البشر في مصر وخارجها.

الأكثر جنونًا وسفهًا أن ينشغل أحدٌ بمناقشة كل ذلك السخام، أو تفنيده، لكن السؤال الواجب في هذا الوضع البائس هو: من الذي يهمه أن يظهر المجتمع المصري على هذه الصورة المفارقة للعقل والمنطق؟ من الذي يحرص على تثبت صورة لمصر،  وطنًا كان رائداً، فصار راقداً فوق بيض الخرافة والدجل، مفرّخاً كل يوم أسراباً من مروّجي الكذب، المحرّضين على القتل؟ من هؤلاء أصلًا، وكيف نشأ ذلك الجيش الأسود ونما وتمدّد على الأرض المصرية، مكرّسًا نموذج المواطن ذي الملامح المصرية، الناطق بالعربية، لكن كلامه مصبوغٌ بألوان صهيونية صريحة؟

قبل أكثر من أربع سنوات، رصدت النشاط المحموم للسلطة وأذرعها في محاولة تكفير المصري بالمصري، وتوسعة قنوات الكراهية والاستقطاب والرغبة في الاستئصال ومدّها إلى مناطق جديدة، في إطار ما وصفتها مرحلة الرغبة في استبدال الجمهور وإبادته، وكان ذلك مع اتساع مساحة الغضب والاحتجاج على السياسات الاقتصادية والاجتماعية، والخارجية بدرجة أقل، لتضم  قطاعاتٍ من الجماهير، تحوّلت بنظر النظام، إلى مجموعةٍ من الأعداء والأوغاد والمتآمرين، في ظل ذلك الوهم المعشّش في رأسه، أنه ناجح، بل وعبقري، يحقق، في أيام، ما عجز عن تحقيقه السابقون في عقود، ولن ينجح فيه اللاحقون.

لا تستهدف مليشيات الجيش الأسود تدمير صورة الأطباء بنظر المجتمع، فقط، بل تريد الوصول إلى الهدف الأهم، وهو تسميم الوعي العام بشكل كامل، بحيث لا يفكر مواطن مصري في إمكانية استعادة تلك اللحظة التي انصهر فيها الكل في واحد صحيح الوجدان والضمير والعقل، استطاع أن يقول للفساد والظلم والقهر والقمع: لا.

الجيش الأسود صناعة صهيونية، مثل رأس النظام الذي يتحدث باسمه، حتى لو لفّ نفسه بالعلم المصري، فلا تستسلم أمام غاراته التي تريد تكفيرك بمصر وتحرّضك للهجرة منها، وقل للأطباء الذين يموتون من أجلك شكرًا، واطلب من الأوغاد الذين يصادرون  من راتبك واحد بالمائة شهريًا ألا ينفقونها على إنتاج مسلسلاتٍ لتلميع جنرال الحكم، قل لهم أنفقوها على تحسين أوضاع أبطالٍ في المستشفيات يستشهدون دفاعًا عن حياتك، ولا يجدون الأسلحة التي يحاربون بها من أجلك.
قل لهم إن تكلفة إنتاج مسلسل تلفزيوني مخابراتي واحد تكفي لتأهيل ثلاثين مستشفى على الأقل لمواجهة وباء كورونا.
نقلاً عن "العربي الجديد"