المصريون وصحتهم النفسية

- ‎فيمقالات

لا يفوت الفاحص لوجوه المصريين فى تجمعاتهم، ما علاها من نكد ووجوم، وحزن وكرب، وقد اختفت ضحكاتهم، وغابت (قفشاتهم) ونكاتهم التى عُرفوا بها بين الشعوب. بل ازداد الأمر سوءًا حتى تخلوا عن صفات الإيجابية والكرم، ونجدة الملهوف وعون الضعيف؛ لتتجه عاطفتهم بحدة إلى السلبية واللامبالاة، وإلى التوتر والانفعال، وفى أحيان كثيرة إلى العنف والعدوان..

والأسباب لا تخفى على عاقل؛ فما تعرض له شعبنا على مدى عقود من قهر وإفقار، كفيل بوصوله إلى تلك الحالة من القلق الذى هو منشأ الأمراض النفسية جميعًا، فالمصريون خائفون من الغد، قلقون على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، لا يرون فى الأفق علامة خروج من ذلك النفق المظلم الذى أدخلنا فيه العسكر منذ سبعة عقود؛ فلذلك تراهم على تلك الحال من الاكتئاب، واليأس والإحباط والشعور بعدم الارتياح؛ من تهديدات لا يمكن السيطرة عليها أو تجنبها -كما يقول علماء النفس.

فى أحدث مسح قومى للاضطرابات النفسية على 22 ألف أسرة ممثلة للتوزيع الجغرافى للمحافظات -أجرته الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان بوزارة الصحة، بالاشتراك مع الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء وبتمويل من منظمة الصحة العالمية- جاءت نتيجته كالتالى: 25% من أفراد العينة يعانون أعراضًا نفسية، 12% مصابون بالفعل بمرض نفسى، وفى المؤتمر الختامى لهذا المسح أكد المسئولون وجود 2.5 مليون مدمن فى مصر.. وهذه -بالطبع- أرقام مخيفة، فهى تعنى أن لديك ملايين من المرضى النفسيين والمدمنين الهاربين من واقعهم الأليم، وتعنى كذلك أن نحو 70% منهم خارج نطاق العلاج- وتلك مصيبة أخرى؛ فمن يستطيعون العلاج على نفقتهم الخاصة لا يتعدون 10%، والباقون لا تتسع مشافى الحكومة إلا لنسبة لا تتعدى الـ20%؛ ناهيك عن أننا شبه دولة، وأشباه الدول لا تسأل عن رعاياها من المرضى أو العاطلين أو المدمنين ولا تعرف شيئًا اسمه التأهيل والدمج فى المجتمع كما فى باقى الدول المحترمة.

وإذا كان المسح القومى المذكور قد أشار إلى وجود أعراض نفسية عند 25% من المصريين، فهذا يعنى -مع تردى أحوال شبه الدولة- دخول معظم هذه النسبة حظيرة المرضى النفسيين؛ إذ لا علاج، ولا أمل، ولا إرادة، فتتطور الحالة إلى: اكتئاب، هوس اكتئابى، فصام، وفى حالات كثيرة يتجه المكتئب إلى الإدمان؛ فلا تستغرب أن بلغ عدد المدمنين كما جاءت نتيجة المسح 2.5 مليون مصرى فى الفئات العمرية ما بين 18-65 عامًا، والحديث عن الإدمان والمدمنين لا يسعه المقال، فتلك كارثة الكوارث؛ لما ينتج عنها من إعاقات وجرائم وتدمير عائلى وهدم مؤكد لبنيان المجتمع.

إن ارتفاع معدلات البطالة، والعنوسة، وزيادة الضغوط، وعدم تكافؤ الفرص، وفساد الحياة السياسية، وعدم وجود أمل فى حدوث تغيير، وما لحق بالناس من غلاء وبلاء وانحراف أخلاقى وفوضى ترعاها السلطة.. كل هذا ألجأ الكثيرين إلى تلك الحالة من القلق الذى تبدو أعراضه فى ردود الفعل السريعة وغير المناسبة، وانسحب ذلك على المعاملات العامة والخاصة، وما نتج عنها من جرائم وخلافات خطيرة وغريبة عن مجتمعنا.

ومن الإنصاف الاعتراف بأن المجتمعات عمومًا لا تخلو من الأمراض النفسية، حتى المتقدم منها، لكن هناك فرق بين أمراض نفسية يصنعها الترف وخواء الروح، وأمراض أخرى -كالتى عندنا- تصنعها أنظمة الاستبداد والقهر وما تخلفه من فقر وعوز وفساد. وإذا كانت مجتمعات الترف تعالج مرضاها وترعاهم وتقدم لهم سبل النجاة من أمراضهم؛ فإن لدينا حكومات تزيد أعداد هؤلاء المرضى عامدة؛ كى تبقى فى كراسيها بضمان غيبوبة شعبها إما بسبب إدمانه أو مرضه النفسى..

إن مؤشرات الانتحار فى المحروسة وأعداد المنتحرين فى السنة الأخيرة تنبئ بأننا مقدمون على خطر عظيم؛ ذلك أن المنتحر لا يقبل على جريمته الشنيعة تلك -وهى إزهاق نفسه- إلا إذا كان قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت ولم يجد ناصرًا يخرجه مما هو فيه. ينتحر كل يوم شباب فى عمر القوة والفتوة فلم يكلف النظام الفاشى الفاشل أحدًا بدراسة أسباب الظاهرة وحجمها وكيفية علاجها، كما لم يكلف النظام أحدًا بدراسة حجم العداوة التى بين المواطنين، وأسبابها وهذا ألف باء السلم الاجتماعى الذى هو ألف باء أركان الأمن القومى -ذلك أنه يعلم أنه هو نفسه المتسبب فى هذه المصيبة وغيرها من المصائب لحاجة فى نفسه، بل يود لو بقيت دهرًا دون علاج.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها