بلاغة الحذاء الفلسطيني

- ‎فيمقالات

لا يهم إن كان الصهاينة سيعلنون أسماء وفد العار العربي الذي دنس القدس المحتلة بأقدامه أم لا.. ولا يعنينا ثغاء المتصهينين العرب بأنهم دعاة سلام. ما يهمنا ويعنينا أن وجدان الطفل الفلسطيني الصغير لا يزال قادرًا على البصق في وجوه الذاهبين إلى القدس دعمًا للاحتلال، ولا يزال حذاؤه قادرًا على التحليق، حتى ينقضّ على الرؤوس المحشوة بأوهام التطبيع، ويدون ببلاغة: لا للتطبيع.
احسب عدد المطبعين العرب، من الإعلاميين والسياسيين، منذ الاستسلام للمنطق الصهيوني منذ “أوسلو” ستجده لا يتجاوز عدد أصابع اليدين. هم معروفون بالاسم، منهم من استقر في حضيض التاريخ، ومنهم من لم يزل يحيا موصومًا بالعار، والفضل في ذلك أن الإنسان الفلسطيني ما زال هناك محتفظًا ببوصلته وفطرته السوّية، يلفظ كل خيانة تتخفى في رداء العون والمساعدة.
هذه المناعة الفلسطينية أثمرت في عواصم العرب، إذ بقي الوجدان العام يرفض ابتلاع كل تلك الأوهام، وإذا كان لدى الصهاينة فائضٌ هائلٌ من المطبعين الرسميين، إلا أن الأمر، على المستوى الشعبي، مختلفٌ تمامًا، تعبر عنه بدقة ووضوح تلك التظاهرة الهادرة على مواقع التواصل الاجتماعي أول من أمس، احتفاءً بما فعله المقدسيون المرابطون بذلك الهابط بزيه السعودي الكامل على أرض القدس، مدعوًا، أو مستدعى، من العدو الصهيوني، أو مبعوثًا هدية من النظام الرسمي السعودي الجديد، مسكونًا بوهم القدرة على إحداث ثغرة في جدار رفض التطبيع.
في التوقيت ذاته، 22 يوليو/ تموز، قبل ثلاثة أعوام، أرسلت السعودية أول بالون تطبيعي مسير إلى إسرائيل، حين كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن زيارة قام بها اللواء السعودي المتقاعد، أنور عشقي، رئيس المعهد السعودى للدراسات الاستراتيجية، إلى تل أبيب، وعقد خلالها لقاءات مع مسؤولين إسرائيليين، في مقدمتهم المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، دوري غولد، ومنسق شؤون الحكومة الإسرائيلية فى المناطق الفلسطينية، بولي مردخاي.
في ذلك الوقت، تطايرات المبرّرات تقول إنه تصرف شخصي، غير أن أحدًا لم يصدّق هذه الأكاذيب، وجاء رد الفعل الفلسطيني الشعبي درسًا بليغًا لكل الباحثين عن ثغرة في جدار الممانعة، للوصول إلى سلام دافئ مع الكيان الصهيوني، يؤمن فرصة الوصول إلى العرش.
قبل ذلك، ومنذ 16 عامًا، لقن المقدسيون وزير الخارجية المصري الراحل، أحمد ماهر، الدرس ذاته، حين تسلل إلى المسجد الأقصى، بحماية جنود الاحتلال، في ديسمبر/ كانون أول 2003 حيث نجحت الجموع الفلسطينية الغاضبة في إخراجه من الأقصى، وإعادته من حيث جاء، غير مأسوف عليه إلا من الخارجية الأميركية والنظام المصري، وبالطبع الاحتلال الصهيوني.
تكرّر الأمر نفسه مع سعد الدين إبراهيم، حين ذهب في العام الماضي لإلقاء محاضرة في جامعة تل أبيب، فاستقبله الطلاب الفلسطينيون بصيحات الاستنكار والإدانة، وهتفوا “عاش نضال الشعب الفلسطيني، وعاش الشعب المصري الحر”.
الشاهد هنا أن المناعة الشعبية ضد التطبيع لا تزال بخير، سواء عبرت هذه الحقيقة عن نفسها من خلال ردود أفعال الجماهير، داخل فلسطين وخارجها، أو عن طريق النقابات المهنية العربية التي لا تزال تجرّم سلوك التطبيع، منذ أول تحقيق نقابي أجرته نقابة الصحافيين المصريين مع الدكتور أسامة الغزالي، في جلسة تاريخية شهيرة انعقدت في 21 مارس/ آذار عام 1997، وقرّر مجلس النقابة في هذه الجلسة بالإجماع أن يوقع على الدكتور أسامة عقوبة “لفت النظر”، هو والدكتور طه عبد العليم، والدكتورة هالة مصطفى، وعبد الستار الطويلة، وشوقي السيد، ومحمد علي إبراهيم، بسبب مخالفتهم لقرار النقابة بعدم التطبيع مع الصهاينة، واجتماعهم مع بنيامين نتنياهو، وكان وقتها رئيساً لوزراء “إسرائيل”، في أثناء إحدى زياراته القاهرة.
صحيحٌ أن قدرة النقابات على المقاومة باتت أقل، في ظل خضوعها لأنظمة حكم أكثر فجاجةً وبجاحةً في إعلان تبعيتها الكاملة للمشروع الصهيوني. وصحيحٌ أيضًا أن الشعوب العربية منهكة بفعل هذه الأنظمة التي تخوض حربًا مسعورة لكتم كل نفس مقاوم ورافض للانسحاق في الحلم الصهيوني، إلا أن الثابت أيضًا، والذي أكدته مظاهر الاستقبال الحار من أطفال القدس لوفد الملوثين العرب، أن البوصلة ما زالت هي فلسطين، وأن الشعوب لا تنسى ولا تفرط أو تتهاون في معركة الوجود العربي.