تحولات في العقل الجمعى المصرى

- ‎فيمقالات

العقل الجمعى كما يعرّفه علماء الاجتماع والسياسة؛ هو رأىٌ اتفقت عليه الجماعة فصار مزاجًا عامًّا لها، أو معتقدٌ قد وقر في وجدانها وانبنت عليه أفعال أفرادها. فلو قلنا: «العقل الجمعى المصرى» فنعنى: المكوِّن الثقافى والأخلاقى للمصريين الذي يذوب فيه المختلف في المؤتلف؛ ليعبر عن إيمان سياسى أو اجتماعى بقضية ما، وقناعة بها تصل إلى حد المعتقد.

ولقد مثَّلت ثورة يناير تحولاً مهمًّا وفارقًا في رأى «الجماعة المصرية» لدرجة الكفر البواح بما كانت تأنس به من قبل وتدافع عنه؛ ذلك أنها –أى الثورة- جاءت على غير موعد، وبما ليس في الحسبان، فكشفت المستور، وأخرحت المخبوء، وأزاحت الستار عن حقائق ظلت مخفية عشرات السنين بفعل فاعل لا زال مستخفًّا بـ«جماعة المصريين» حتى هذا اليوم المشهود. 

من أجل هذا حدث هذا التحول الملحوظ، الذي يصعب الآن تغييره أو حتى مجرد التأثير فيه، بل كلما ازداد العسكر شراسة ازدادت قناعة المصريين برأيهم، وازدادوا تكذيبًا وتسفيهًا لهم، خصوصًا أن هذا الرأى متوافق مع الشرع، ولا يصطدم بالديمقراطية الحديثة، ويناسب فطرة الله التي فطر الناس عليها.

لقد استقر في قناعة المصريين –قبل قيام الثورة- أنه لا يصلحهم إلا «العسكرى»، وأنه يجب ألا تُرفع عنهم عصاه تأدبًا، مدَّعين أنهم «جنس فرعونى!» لا يقيمه الرفق، بل تصلحه الخشونة والعنف. وبالمثل اعتقدوا أن مجتمعنا لا تنفعه الديمقراطية قدر ما تضره؛ لأننا شعب لم ينضج بعدُ كى يستوعبها. وطوال هذه العقود ظل المصريون يتغنون بالأمجاد والماضى التليد، بأوامر السلطة التي صرفتهم عن كل طرق التغيير؛ بالخداع تارة وباالبطش تارات، حتى تأسست قناعة لدى عامتهم تلخصت في جملة «مفيش فايدة!»، وهى إن كان تطلق في مواقف وحوارات ساخرة فإنها تلخص واقعًا مريرًا، وانحرافًا يبدو ألا نجاة منه.

سبعة عقود مضت والمصريون يضعون الحاكم في مكانة شبه مقدسة، فلا يُنقد، ولا يُحاسب، ولا يتعرض أحدٌ لشخصه «الكريم!»، من قريب أو بعيد؛ لمبررات اعتبروها «وطنية!» أو«قومية!»، ومن يخالف ذلك تُكال له اتهامات مثل «العمالة» و«الخيانة» و«بيع الوطن». كما عاش المصريون هذه العقود ينزِّهون الجهات السيادية، ويسلِّمون بولائها القومى، وانتمائها الوطنى؛ ما يمنع الشك في فسادها أو خضوع أفرادها لغير ما يصب في مصالح البلاد والعباد. وقد ترتب على القناعة بقداسة «الرئيس» ونزاهة «الجهات السيادية» الدفاع عن ذلك الشخص وتلك الجهات بكل قواهم، ولوم من يتعرض له ولها كائنًا من كان.

ومن دون شك فإن هذا العقل الجمعى السلبى قد شكَّله العسكر منذ استيلائهم على السلطة؛ عن طريق الإعلام الموجه (من طرف واحد)، وبث الشائعات، وأعمال الدراما والفن، والحرص على إخلاء الساحة السياسية من أى حراك طيلة هذه العقود. ناهيك عن ملاحقة المصلحين والزج بهم في غياهب السجون.

والآن تحول الأمر إلى النقيض، وصارت «الجماعة المصرية» عكس ما كانت قبل يناير 2011؛ انكسر حاجز الخوف، وتحطمت أصنام الحكام،  وزالت قداستهم، وتحطمت معها الرهبة من السلطة، وباتوا يطالبون بمحاسبة المسئولين، وبهيكلة «الجهات السيادية» التي اتضح أنها غارقة في الفساد،  وهناك إلحاح على تبنى الديمقراطية كاملة منهجًا للحكم، وأن يعود «العسكرى» إلى ثكناته؛ إذ لا يصلح للسياسة أو قيادة المجتمع. والأهم أن غالبية المصريين الآن لا يخضعون -كما سبق- لإعلام أو شائعات العسكر، ولا يُفتنون بفنهم ومساخرهم، ويقولون بلسان الحال: (إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبى)؛ زهدًا في التغنى بالماضى الذي لن يغير من الواقع شيئًا إن لم نكن على قدر مزاحمة الآخرين فيه.

وقد يسأل سائل: وما الذي تغير؟ أو ما الذي جنيناه رغم تغير «العقلية الجمعية المصرية»؟ أقول: لقد تغير الكثير، وتلك ضربة هى الأقوى، تليها أخريات، ثم تكون قشة تقصم ظهر البعير؛ فإن الجماهير لا تُغلب، ولا تستسلم، هكذا أنبأنا التاريخ، ولا تنسى ثأرها ولو تعاقبت العقود، ولا تزال متربصة تلحُّ عليها أفكارها حتى تنقض على خصمها فلا حياة له من بعد.

وهى الآن تخايل المستبد، وتظهر له وتختفى، وتصارعه ويصرعها راغبة في خلخلته ومنعه الأمن والاستقرار… وهو إن صبر ساعة فلن يصبر الأخرى؛ (قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [سبأ: 49].