تعطُّلُ الحجِ لم يلغِ معانيَهُ الساميةَ

- ‎فيمقالات

شاء اللهُ –تعالى- أن تتعطل فريضة الحج هذا العام؛ للوباء الذى حل بالعالم «كورونا»، وهذا أمرٌ مشروعٌ عطل أمرًا شرعيًّا، فهل هذا يعطل فوائد الحج لغير الحاج؟ أبدًا لا يعطلها، بل لعل عدم انعقاد الفريضة يكون أدعى لإعادة اكتشافها ومعرفة فضلها وفوائدها، للحاج ولغير الحاج.

وعلى العموم فإن هذه الأيام (العشر من ذى الحجة) أيام فضل وبركة لمن اغتنمها؛ لما ورد عن النبى ﷺ: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، فقالوا يا رسول الله، ولا الجهاد فى سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد فى سبيل الله إلا رجلًا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشىء».

والمؤمن حريصٌ على ألا تضيع منه هذه الفرص والنفحات، وقد أُمر باقتناصها؛ لقول النبى ﷺ: «افعلوا الخير دهرَكم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمِّن روعاتكم»، وتلك سوق رابحة ثمرها غزير وخيرها كثير، والمحروم من حُرم الدخول، والبيع والشراء، خصوصًا فى عامنا هذا الذى أضير فيه كثيرٌ من الناس وقد اجتمع عليهم البلاء والغلاء؛ فهم بحاجة إلى من يمد إليهم يدَ الإحسان بالصدقة والهدية، أو السعى فى تفريج كربهم وهمومهم، أو حتى المواساة بالكلمة الطيبة.

وإذا كانت ثمة أعمال يجب على المسلم ألا تفوته فى هذه الأيام، مثل قراءة القرآن والدعاء والمناجاة والصيام والبر والصدقة وقيام الليل وصلة الرحم؛ فإن عليه واجبات أخرى متعلقة بالمعانى السامية للحج، وهى التى شُرع لأجلها. فمن فلسفة الحج، التقوى، وهى الانسلاخ من المعصية والانخراط فى الطاعة وما يجلبه ذلك من صفاء القلب ونقاء السريرة والعروج إلى مواطن الأخيار، والله –تعالى- يؤكد هذا المعنى بقوله: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ…) [الحج: 37]؛ فالحج عبادة عظيمة تكفِّر الذنب وتمحو الخطيئة وتشعل الإيمان فى قلب من أداها خالصة لله سبحانه. يقول النبى ﷺ: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».

والحج يعنى التحرر من كل ما يجذب الإنسان إلى التدنى والسفلية، فهو تحررٌ من الذنب، وتحررٌ من الدنيا ومحقراتها، وتحررٌ من حظوظ النفس وشهواتها. وقسْ على ذلك حتمية تحرره من كل تبعية، ونفوره من كل عبودية إلا لله، وفراره من كل ما يخدش كرامته، أو يجعله على غير ما خلقه الله له، فإن الله –تعالى- قد كرَّم الإنسان على سائر ما خلق، ثم جاءت شياطين الإنس والجن فحرفته عن هذه المكانة، رغبًا ورهبًا، فجاء الإسلام بشرائعه وشعائره ليرده إلى تلك المكانة العلية؛ فلا يجوز لمؤمن أن يفرِّط فيما وهبه الله، مهما كانت المشاق والتضحيات..

وإذا نظرتَ إلى هيئة الحجاج أدركت أن الله يريد المساواة بين البشر، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، الجميع بملابس واحدة، على هيئة واحدة، لا فرق بين كبير وصغير، أو رجل وامرأة، أو وزير وخفير، الكل يسعى ويطوف، والكل يحرم ويلبى، لا طبقية ولا عنصرية ولا تفاوت، على اختلاف الألسنة والألوان والأجناس. وهكذا يريدنا الله –تعالى- ورسوله –صلى الله عليه وسلم-؛ متساوين متراحمين متعاونين متكافلين؛ «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم..»، فإذا ما اشتط حاكم أو أمير فإن المؤمنين يردونه، فإن الله لم يخلق الحكام والأمراء لقصف رقاب الناس وسفك دمائهم وانتهاك حرماتهم، إنما جعلهم فى مكانتهم هذه ليختبرهم؛ فهم أولى الناس بإقامة العدل ومحو الظلم ونشر الأمن بين المحكومين.

والحج يذكِّر باليوم الآخر وزحامه، وانخلاع حضوره من دنياهم، واصطفافهم وتلاصقهم، والمشاق التى يعانونها، فهو كيوم حشر مصغَّر، الناس فى صعيد واحد ينظرون إلى خالقهم بعين الشفقة، متوجهين إليه بكليتهم، وما من مؤمن يتذكر ذلك إلا ويخشع قلبه، وتشرئب جوارحه متطلعة إلى ذلك الملكوت الربانى الذى تكون عنده نهاية البشر مثلما كان مبتدؤهم.