ذكرى الغدر والانحطاط

- ‎فيمقالات

دققْ فى تفاصيل المذابح التاريخية كافة؛ فلن تجد أقسى ولا أبشع من تلك التى وقعت فى ميدان (رابعة العدوية) بمصر فى 14 أغسطس 2013؛ إذ جمعت ما عرفه وما لا يعرفه الآدمى من انحطاط فى النقمة على أخيه الآدمى. فيها الغدر والخيانة، وانعدام المروءة، بل انعدام الإنسانية، لقد قتلوا الآلاف بدم بارد فى ساعة واحدة، ومن ورائهم إعلام فاجر يرقص طربًا، محللًا المجازر العديدة التى عمّت المحروسة فى ذلك اليوم وما تلاه.

ولسوف يُرفع النقاب يومًا عن الدسائس والمؤامرات التى كانت سببًا فى حصد ثلاثة آلاف نفس، هى من خيرة الأنفس، فى ضحى هذا اليوم، والتى مهما حاولوا طمس أدلتها سوف تظل كابوسًا مزعجًا يفسد عليهم عيشهم، وسوف تظل دماء المغدورين فائرة لا تهدأ حتى يُقتص لها من قاتليها، وسوف يظل ذوو الدماء متربصين بالمجرمين حتى يأتى الله بأمره؛ فمن أسهم ولو بالإشارة إلى القتل سوف يدفع ثمن إشارته، والأيام دولٌ، وربك المنتقم العزيز الجبار.

ووالله لو كانت حربًا مع الصهاينة ما فعلوا بهم ما فعلوه بالمعتصمين العزل الذين كان سلاحهم القرآن، وذخيرتهم الذكر، ولو أنهم استأسدوا على الصهاينة كما استأسدوا على الأطهار لاستبدلوا سجلًا للانتصارات بسجلهم المخزي فى الهزائم والنكبات، لكنها التبعية والعمالة التى خلّفت ما لا يُحصى من المآسى والانكسارات.

قتلوا بكل وسائل القتل، وأزهقوا كل من صادفوه دون تمييز، بالطائرات والمدرعات، والذخائر المضادة للدروع، فجروا بها أمخاخ الضحايا، وأحرقوا كل ما طالته أيديهم فرأينا جثث الأشراف متفحمة، لم يراعوا فيهم إلًّا ولا ذمّة، ولا مواطنة أو جيرة، ولم يفرقوا بين شيخ وشاب، ورجل وامرأة، وطفل وطاعن، بل كانت آلة حربهم تستأصل كل شيء، وتحرق الأرض والسماء، حرقوا المسجد والمستشفى، والمصاحف، والنساء، والرضع، وأجهزوا على الجرحى، ومنعوا الإسعاف من الوصول إلى المصابين، وخلفهم (بلدوزراتهم) تكنس ما يقابلها من جثامين وأعضاء بشرية، ثم رفعوها مع أنقاض الخيام فوق (لوريات) وذهبوا بها إلى الصحراء ليدفنوها فى مقابر عميقة أعدوها لهذا الغرض.

ولا أظن مجرمًا ممن اشتُهروا بارتكاب مذابح فعل هذا مع عدوه، بله مواطنيه، إلا هؤلاء الذين تطول قائمة إجرامهم فلا يسعها مقال ولا عشرة. إنهم لم يكتفوا بكل ما فعلوه من قتل وذبح وحرق وترويع وإجهاز على المصابين، بل فعلوا أخيرًا فعلتهم الشنيعة؛ دعوا من بقى من الأحياء بالانسحاب فيما أسموه (الممر الآمن)، وما إن شرع المساكين فى مغادرة الميدان حتى أطلقوا عليهم نيرانهم الغادرة من جميع الاتجاهات، وحتى اعتقلوا المئات، وهم فى كل هذا يسخرون من الضحايا ويطلقون عليهم الضحكات الشيطانية والنكات البذيئة.

وليتهم التزموا بقوانين الحرب التى تجيز الاستسلام وتجير المستسلمين؛ فإنهم فتحوا نيرانهم على من رفعوا أيديهم بالاستغاثة، وهجموا على هؤلاء العزل هجوم الضباع الغادرة على ضحاياها الجريحة، وولغوا فى دماء الأبرياء ولوغ الذئاب فى دماء الحملان، لا يردعهم دين ولا ضمير.

ولأنهم جبناء فلم يسمحوا لأحد بتوثيق ما ارتكبوه من جرائم، فدارت أسلحتهم على الصحفيين والمصورين، وقنصوا كل من يحمل (موبايل) أو آلة تصوير، وفتشوا كل مارّ لينتزعوا منهم أدلة اتهامهم، غير أن يد الله التى تعمل فى الخفاء سجلت عليهم كل ما فعلوه، وفى انتظار يوم الحساب، وهو ليس ببعيد، هذا فى الدنيا، وفى الآخرة خزى وعذاب شديد.

كانت تلك مذبحة كبرى تبعتها مذابح أخرى على إثر اعتراض الشعب على إجرامهم؛ فكثرت لذلك أعداد الشهداء، واستحرّ القتل حتى غطت الدماء جميع الشوارع والطرقات، فلم يبق حىٌ إلا وشهد مذبحة، أكبرها تلك التى وقعت فى ميدان مصطفى محمود، وفى مسجد الفتح، وفى سموحة، وفى القائد إبراهيم، وفى المنصورة إلخ. لقد أطلقوا كلابهم فى شتى المحافظات تنهش الأحرار، وقد أمدوهم بالمال والسلاح، وأمروهم ببث الرعب وإخافة الجميع لئلا يبقى أحدٌ آمنًا على روحه، وكان لهم ما أرادوا حيث عمت الفوضى، وانتشر البلطجية يعذبون ويقتلون، يساندهم إعلام غادر يشوه الشرفاء، ويباهى بالمجرمين.

أما ختام الخيانة فكان تسجيل أسباب وفاة الشهداء على غير الحقيقة، ادعوا موتهم منتحرين، أو فى حوادث سير، ولا يفعل هذا إلا منزوع الدين والضمير، أو شيطان فى صورة بشر، أو وحش مهووس متعطش للدماء.