رسائل الاحتباس السياسي في مصر

- ‎فيمقالات

رسالة تدمي القلب، هذا أقل ما يمكن أن توصف به تلك الرسالة المنسوبة إلى شباب المعتقلين والمحبوسين في السجون المصرية، تطلب حلًا، أي حل، ينهي عذاباتهم داخل الزنازين.

لست معنيًا، هنا، بالجدل الصاخب حول مصدر الرسالة، وهل هي حقيقية أم مجرد بالون يطير في الفضاء السياسي بمعرفة هذا الطرف أو ذاك، فكل الاحتمالات تنتهي إلى حقيقة واحدة، مضمونها أن من في السجون بلغوا من الإنهاك حدًا لم تعد المقاومة معه ممكنة، وأن ست سنوات مضت على الكارثة زعزعت اليقين بالخلاص والنجاة، وبالثورة أيضًا.

بشكل مبدئي وحاسم، ليس من العدل، أو من الإنسانية، أن يرى طرفٌ من الأطراف في آلاف السجناء والمعتقلين جنودًا، أو وقودًا، لمعركته السياسية أو الثورية. وليس من العدل والإنسانية أن يبقى هؤلاء رهائن معركةٍ بين طرفين آخرين، وبالتالي فإن أبسط حقوق هؤلاء أن يحترم الجميع معاناتهم، ولا يسخر من صرخاتهم، أو يصنفها حسب رؤيته واعتقاده وتحليله.

على أن هذا كله يفرض مجموعة من الأسئلة، بعضها واقعي، ومنها الافتراضي، لا حرج في طرحها، في ضوء قراءة السطور القادمة من الزنازين:

أولًا: إذا كان أصحاب الرسالة قد بلغ بهم اليأس حدًا باتوا معه لا يرون أملًا يُرجى ممن يسمّونهم قيادات العمل السياسي والثوري في الخارج، وبشكل خاص التيار الإسلامي، فلماذا لا يعلنون تمرّدهم وانفصالهم التنظيمي والأيديولوجي عن هذا التيار، ويوجهون رسالتهم إلى النظام المصري، مباشرًة، ويعلنون أنهم ليسوا طرفًا في المعركة الدائرة، ويطلبون الخروج، بالعفو، أو بصفقةٍ يلتزمون فيها بتطليق العمل الثوري والنشاط السياسي، والانخراط في حياة عادية؟

ثانيًا، ومن باب التكرار: مضمون الرسالة يقرّ بأن حل مأساة السجناء والمعتقلين بيد النظام، وحده، فما الحاجة لتمرير الرسالة أو الحل، عبر قيادات “الإخوان المسلمين” في المهجر، ولماذا لا يخاطبون السلطة مباشرة، وهي أقرب إليهم جغرافيا من الطرف الأبعد الذي ضجّوا بطريقته في إدارة الصراع، وكفروا بقدرته على إنجاز حل؟

ثالثًا: لماذا لا يظهر هذا النوع من الرسائل إلا في مواعيد ذكرى المذابح المروّعة، رابعة والنهضة، وما سبقهما ولحقهما من مجازر، وفي سياق من اجترار شهاداتٍ وحكاياتٍ عبثية تشكك في نقاء فكرة الاعتصام ضد الانقلاب، وتصوّر الأمر، كما يفعل إعلام سلطة الانقلاب، على أن القيادات السياسية غرّرت بمئات آلاف من المعتصمين، واستدرجتهم إلى الموت في معركةٍ ليست معركتهم؟

رابعًا: لماذا ينتعش محصول المبادرات، المكرّرة والمناقضة لما قبلها من الشخصيات ذاتها، في مناسباتٍ من المفترض أنها تعيد تذكير الداخل والخارج بحقيقة ما جرى وجوهره، باعتباره عدوانًا غاشمًا على ثورة المواطن المصري وحريته وإنسانيته، وليس مجرد نزاع بين العسكر والإسلاميين؟

الحاصل، أنه في كل مرة يخرج أحدهم باكتشاف جديد، يطعن به في نقاء ونظافة الموقف الأخلاقي والثوري والإنساني لمن قرروا الاعتصام ضد جريمة سياسية وإنسانية، وهو الموقف الذي اتخذه ملايين المصريين، ليسوا بالضرورة من المنتمين إلى جماعة الإخوان أو تيار الإسلام السياسي فقط.

يبدأ الطاعنون في الاعتصام وينتهون عند نقطة، غاية في السخف، وأبعد ما تكون عن المعيار الأخلاقي والثوري، مفادها بأن ميزان القوة لم يكن في صالح الانحياز لمبادئ العدل والحق والإنسانية، على نحوٍ يذكر بذلك الصخب الفقهي الذي اندلع بعد فتوى من ياسر برهامي، زعيم السلفية الانقلابية البوليسية، بأنه “يمكن للزوج أن يترك زوجته في حال اغتصابها إذا تأكد من قتله”. وهي الفتوى التي أثارت غضبًا عارمًا من كل من كان في عروقه نقطة دم، وفي داخله وخز ضمير.

يتناسى هؤلاء أن الاحتشاد ضد الانقلاب لم يكن شأنا إخوانيا فقط، كما أن الموقف الأخلاقي والثوري لا يتم اتخاذه بناء على معايير ربحية، فالانتهازيون والسماسرة فقط يشاركون في المناسبات ذات الربح المضمون، وكأن الأمر مضاربة في البورصة، وليس بوصفه واجبًا، بصرف النظر عن مردوداته..

والشاهد أننا لو أعملنا هذا المنطق في لحظة “25 يناير” في 2011، ثم في موقعة الجمل، لما كانت هناك ثورة يناير، ذلك أن ميزان القوة في تلك الأيام كان لصالح النظام المدجّج بكل أشكال القوة الباطشة، وهو الوضع المصاحب للثورات في كل مكان، من تونس ومصر 2011 حتى الجزائر والسودان 2019.

إن أحدًا لا يستطيع المزايدة على آلام السجناء والمعتقلين، ولا يجادل في أن المأساة اتسعت وتعمّقت إلى حدود لا تحتمل، غير أنه، من الناحية الأخرى، لا يمكن التسليم بأن الرسالة الرائجة على أوسع نطاق تعبر عن موقفٍ موحد لعشرات آلاف من السجناء والمعتقلين. ومع ذلك لا مصادرة على حق أحد منهم في طلب الخلاص، بالطريقة التي يختارها، من هذا الجحيم.

وأيضًا، لا مصادرة على حق طرفٍ في أن يخرج علينا كل يوم بما يعتبره مبادرة للحل، غير أن ذلك يبقى اجتهادًا من أصحابه، يعبر عن رؤيتهم، من دون إلزامٍ للجميع بأن يكونوا جزءً من هذا اللغو المكرور.

والحال كذلك، أحسب أن المبادرة الوحيدة المقبولة الآن ينبغي أن تكون من سطر واحد يقول: على الجميع التوقف عن إطلاق المبادرات في الهواء ستة أشهر على الأقل، وممارسة التفكير في صمت، خصوصًا أن زحام المبادرات بات يهدّد بمفاقمة الاحتباس السياسي في المشهد المصري.

نقلا عن “العربي الجديد”