القضاء من أهم مرتكزات الحكم العادل، لذلك يقتضي الأمر أن يكون مستقلاًّ وليس أداة لنظام الحكم في أي بلد، كما يفترض أن يكون في متناول المواطنين العاديين وليس محصورًا بمن يملك المال، فليس مقبولاً أن يكون القضاء متوفرًا من الناحية القانونية والنظرية بينما يتعذر على المواطن العادي الوصول إليه عند الحاجة بسبب تكاليفه الباهظة، وثمة توافق على أن أنظمة الاستبداد لا توفر أنظمة قضائية مستقلة تنظر في قضايا المواطنين إذا كانت ذات صبغة سياسية.
وأمرت وزارة التعليم بالمملكة العربية السعودية بالتحقيق في واقعة طرح سؤال في ورقة امتحان بـ”مدرسة أهلية”، عن الداعية السعودي سلمان العودة المحتجز لدى السلطات منذ سبتمبر 2017.
ووصفت الوزارة العودة بأنه “من ذوي الفكر المنحرف”، حسبما ورد في تغريدة لابتسام الشهري المتحدثة باسم التعليم السعودية، وقالت الشهري عبر حسابها في تويتر: “إشارة الى ما تم تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي من قيام معلم غير سعودي بمدرسة أهلية؛ بطرح سؤال في ورقة عمل قبل أسبوعين تضمنت ذكر أحد الموقوفين أمنيًا من ذوي الفكر المنحرف؛ فقد وجه وزير التعليم بالتحقيق بالموضوع حالاً، ورفع النتائج، وإشعار الجهات الأمنية المختصة لإكمال ما يلزم”!
من أجل تغريدة..!
وفي مملكة بن سلمان يعتقل الشيخ الداعية “سلمان العودة”، والسبب تغريدة تمنى فيها أن يجمع الله شمل دول الخليج بدلاً من حصار شقيقتهم قطر، بينما يُترك المتصهين “محمد سعود” يزور كيان العدو الصهيوني، ويخرج في اتصال بالفيديو مع نتيناهو أثناء انتخابات حزب اليكود، بل ويغني لنتنياهو من داخل السعودية “بيبي بيبي انت حبيبي”؛ ما جعل نتنياهو يشعر بالزهو والفخر ويرد “يا ليتك يهودي معنا في حزب الليكود”!
وكتب الدكتور عبدالله نجل الشيخ العودة تغريدة على حسابه بموقع تويتر، رصدتها (الحرية والعدالة) قال فيها: “حضر الوالد سلمان العودة اليوم جلسة جديدة ضمن محاكمته السرّية في الجزائية المتخصصة بالرياض حدّدت المحكمة غدًّت لجلسة جديدة”.
وتابع: “وقد مُنِع من حضورها أي طرف مستقل أو منظمات دولية أو مراقبين دوليين أو صحفيين مستقلين أو ديبلوماسيين مع العلم الوالد لا يزال في الحبس الانفرادي. فرّج الله عنه”.
من جهته يقول الكاتب والمحلل الفلسطيني الدكتور صالح النعامي: “الشيخ العامل المصلح سلمان العودة الذي زرع حيثما حلّ ومنيس فريدمان كبير حاخامات اليهود في أمريكا”، مضيفًا: “فريدمان أفتى بوجوب تدمير المسجد الحرام والمسجد النبوي لضرب الروح المعنوية للمسلمين”.
وتابع النعامي: “فريدمان هو حاخام عائلة كوشنر صاحب التأثير الطاغ في الرياض ويصول في البيت الأبيض.. والعودة في السجن”.
وللقضاء في مملكة بن سلمان قصة أخرى؛ حيث القضاة أداة بيد الحاكم الذين يهيمن على السلطات جميعًا، هذه السلطات غير مفصولة أبدًا، فالحاكم هو الذي يعين القضاة، ويعين أعضاء مجالس الشورى غير المنتخبة، ويسيطر على وسائل الإعلام كافة، ويدير أجهزة الأمن التي تنفذ رغباته بحذافيرها.
وقد جاءت قضية خاشقجي لتؤكد هذه الحقائق، وتحت الضغط الدولي اعترفت السعودية بقتل الإعلامي المعارض جمال خاشقجي في أكتوبر 2018 من قبل مجموعة يعمل أفرادها ضمن أجهزة الأمن، ولكن الرياض حصرت الجريمة بأفراد ذوي رتب رسمية متدنية، في محاولة لحماية الذين اتخذوا قرار تصفية خاشقجي في أعلى مستويات الحكم.
وبرغم الضغوط الإعلامية والحقوقية استطاعت السعودية ضمان مواقف الدول الغربية القادرة على التأثير على القرار الدولي، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي حسم الموقف عندما قال إنه لن يسمح لقضية خاشقجي بالتأثير على العلاقات مع السعودية، بغض النظر عمن اتخذ قرار قتله.
ونظرا لاكتشاف أغلب تفصيلات ما جرى، أجبرت الضغوط الإعلامية والحقوقية الرياض على اتخاذ خطوات متواضعة للتظاهر بأنها جادة في متابعة خيوط الجريمة، وقدمت مجموعة من الأشخاص إلى “القضاء”!
حلقة الوصل
وأعلنت الرياض أن الادعاء العام أصدر قرارًا بإعدام خمسة من هؤلاء بدون ذكر أسمائهم، ولم يكن من بين هؤلاء شخصان أساسيان يعتبران حلقة الوصل مع ولي العهد السعودي، الذي اتهم بإصدار قرار التصفية، وهما: سعد القحطاني وسعود العتيبي.
وبعد صدور قرار الإعدام، عاد سعود القحطاني للظهور الإعلامي عبر حسابه في تويتر، قائلاً: “عدنا والعود أحمد”، وفي ذلك تحدٍّ واضح لمن اعتقد أن العدالة ستطاله كذلك.
وثمة حقائق يجدر الإشارة إليها، أولها أن قرار تصفية المرحوم جمال خاشقجي جاء من ولي العهد السعودي، وهذه حقيقة أكدتها أجهزة الاستخبارات الغربية على رأسها سي آي إيه الأمريكية، وثانيها أن القضاء السعودي تابع للحكم، وليس مستقلاًّ أبدًا، بل ينفذ ما يطلبه المسئولون الكبار.
وثالثها أن نمط التعامل السعودي مع المعارضين لن يتغير كثيرا، فستبقى السجون مفتوحة لمن يطالب بالإصلاح السياسي، الذي هو أساس لإصلاح أجهزة القضاء والأمن، ورابعها أن قتل المعارضين سوف يتواصل، ليس بطريقة الاغتيال التي استخدمت مع خاشقجي، ولكن بالإعدام الميداني كما حدث مرارًا في المنطقة الشرقية، أو باستخدام “القضاء” كما حدث مع الشيخ نمر النمر، وقد يحدث مع علماء آخرين مثل الشيخ سلمان العودة والشيخ حسن المالكي وسواهما ممن طالب الادعاء المرتبط مباشرة بالنظام بإعدامهم.
ويمكن القول إن قضية خاشقجي كشفت عن مشاكل بنيوية لدى النظام السياسي العربي بشكل عام، والسعودي بشكل خاص، فكانت تعبيرًا بليغًا عن غياب المنظومة السياسية المقبولة اجتماعيًا ودوليًا وأخلاقيًا، وتلخيصًا لعقلية الإقصاء التي تصل إلى حد القتل في حالة الاختلاف مع الحاكم أو من يعارضه.
وعمقت القناعة بضرورة التغيير السياسي في المنطقة العربية والجزيرة العربية بشكل خاص، ليمكن تطوير منظومة الحكم لتصل إلى مستوى العدل وترويج الحرية، وإقامة حكم القانون وإقامة العدل الذي يمثل القضاء المستقل والنزيه أهم مستلزماته.
وكان القضاء السعودي قد وجه للشيخ العودة 37 تهمة خلال جلسة عقدتها المحكمة الجزائية المتخصّصة في العاصمة الرياض، ودافع العديد من المتابعين للعودة عبر السنوات الماضية عنه وطالبوا بالإفراج عنه، نافين التهم المنسوبة له، وغردوا عبر هاشتاج “العودة في خطر”.
كما انتشرت العديد من الهاشتاجات المساندة له منذ اعتقاله، وبينت صحف سعودية أبرز التهم الموجهة للعودة، ومنها ما يدين مسيرته في حياته، التي ألهمت وأثرت في عدد كبير من الشباب، وأثمرت عقولاً نيرة، بحسب جمهوره.