فرص وتحديات التحول في مفهوم “الإرهاب”

- ‎فيمقالات

لفت انتباهي إبان القمة العربية-الأوربية التي انعقدت في شرم الشيخ في ضيافة الانقلاب (24-25فبراير 2019) وبمشاركة 50 دولة من الجانبين؛ أن برنامج هؤلاء القادة المجتمعين قد تضمن في بنوده الرئيسة البحث في سبل وآليات مواجهة ما يسمي بـ”الإرهاب”..! حيث جاء في إعلانهم الختامي ما نصه:” تداولنا حول المشاغل بشأن التهديدات للسلم والأمن الدولي والإقليمي بما في ذلك الإرهاب والتطرف والأعمال التي تقوض الاستقرار..”، ومن قبل ذلك فقد افتتح زعيم الانقلاب –عبد الفتاح السيسي- أعمال المؤتمر مؤكدا الفكرة نفسها أكثر من مرة؛ فقال أنه من بين التحديات:” تنامي خطر الإرهاب، الذي بات – مع الأسف – أداة تستخدمها بعض الدول، لإثارة الفوضى بين جيرانها”، وقال: “إن خطر الإرهاب البغيض بات يستشري في العالم كله كالوباء اللعين..”، ثم دعا الحضور إلي الفعل بقوله:” إننا اليوم في أمَّس الحاجة، لتأكيد وحدتنا وتعاوننا أمام هذا الخطر، والوقوف صفاً واحدا ضد هذا الوباء..”..
وبالطبع فليس من الجديد الحديث عن فكرة الخلط بين المفاهيم وإدعاء دلالات خاطئة ومفخخة تحت مفهوم بعينه حتي تلتبس به ومع مرور وتقادم الزمن يصعب فصلها عنه؛ فتحدث بذلك واحدة من أكبر الجنايات علي الوعي العقلي والوجداني الجمعي والفردي، حيث تستمر حركته وتدور وتنطلق وتصنع سلوكيات وتتخذ مواقف كل ذلك بناء علي تلك المغالطة القديمة التي تم إطلاقها والإلحاح عليها حتي ثبتت..
كان من المنطقي إبان حقبة الاحتلال العسكري من الدول الغربية أن توصِم تلك الدول حركات المقاومة والتحرير بتلك الصفة –الإرهاب- في حين أن مساحات التلقي بالقبول لخطابها كان يقتصر علي أمثالها من الدول المحتلة، ومعهم تلك الفئة من أصحاب المصالح والمنتفعين والخائنين لبلادهم؛ وهؤلاء في الحقيقة لم يكن يعنيهم حقيقة الفكرة بقدر ما كانوا يبحثون عن حجج يضعونها علي ألسنتهم كقناع يبررون به تعاونهم مع الاحتلال وانتفاعهم من ورائه..أما الشعوب الكادحة والساعية للحرية والاستقلال فقد كانت تحتضن حركات المقاومة تلك، ولم يكن ينطلي عليها في الأغلب أي من ألاعيب المفاهيم والدلالات. ساعد علي ذلك فتور تقنية “الإلحاح” نتجية محدودية وسائل الإعلام والتواصل مقارنة بالطفرات التي حدثت لاحقا، بخلاف الحضور القوي لإعلام تلك المقاومة متمثلا في صحافتها وخطبائها وأصحاب المنابر ممن كان لهم تأثير مباشر في وعي الجماهير، وهو وإن كان وعيا بطيء الحركة، إلا أنه ورغم كل شيء استطاع الثبات علي مباديء مفاهيمية منضبطة، فاحتفظ بمفردة “الاحتلال” كما هي بدلالاتها السلبية، كما ألصق الدلالات ذاتها بالمفردات المنمقة التي حاول خصمه تسريبها لتحل محل غيرها، مثل “الإنتداب”، “الحماية”..فبقيت كل تلك المفردات إشارات لمخزون سلبي يشير إلي القمع والقهر والإستغلال..وبهذا الثبات المنضبط استطاع الشعب أن يخطو نحو حريته بقفزات ووثبات من حين لآخر، خطوات إن لم تكن حققت كل الأهداف لكنها وفي أقل التقديرات استطاعت أن تورث الأجيال اللاحقة حقيقة الكلمة –الاحتلال-وماهية الفعل المفترض اتخاذه حيالها..
*****
تطور الأمر ووصلنا إلي عصر صعود أمريكا وتصدير قضاياها ومشكلاتها إلي العالم كأنها قضايا القرن والأولي بكل اهتمام ودراسة عما عاداها، ومن ثم فقد بات التأريخ للعالم الجديد مرتبطا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وانطلقت الدراسات تتحدث عن تلك الواقعة وكأنها مرتكز جدير بوضع كافة القضايا الأخري كمتغيرات سابقة أو لاحقة به..
ومع التطور الكبير في وسائل الإعلام لم يكن من العسير إبراز مفهوم “الإرهاب” وتصديره يمنة ويسرة باعتباره العدو الأكبر والهم الأوحد، فطالما رأت أمريكا أنه هو وارث عداوتها والصراع معها عقب تفكك الاتحاد السوفيتي، فليكن إذن هو العدو والخصم للعالم كله، وهكذا بدأت المنتجات الثقافية والأكاديمية تتفحص هذا العدو، وتتخذ منه مادة للتنظير والكتابة..وهي في ذلك لا تبتعد به عن الإسلام ولا تتحدث سوي عنه..
وهكذا فقد كانت المرحلة الأولي في المفهوم قد زرعته في العقول مرادفا للعنف، وتحولت به عن كونه مفردة قرآنية إيجابية التأثير، إلي فعل خطير تجب مدافعته. أما كنه هذا الفعل، فقد كان في المرحلة الأولي هو “حركات المقاومة والتحرر”، أما في تلك المرحلة الثانية فقد صار “الإسلام” نفسه..بحيث يتم استدعاؤه حين يُذكر الإرهاب بصورة أو بأخري، حتي وإن كان علي هيئة خطاب ديني يدافع ويتحدث عن قيم السماحة والسلام والمحبة..

..ورغم أن هذه المرحلة من المفهوم قد بدأت تلقي رواجا في عقول وقلوب كثيرمن شعوبنا العربية، إلا أنه بقي حتي الآن رواجا نخبويا من جهة، وسيادته اقتصرت إلي حد كبير لدي أصحاب التيارات الليبرالية المناصرين للرأسمالية الحديثة من جهة أخري، باعتبارهم يرون “أمريكا” هي النموذج والمثال، بخلاف ضعف خلفياتهم الإسلامية التي ربما كانت بمثابة حائطا مرجعيا لدي آخريين غيرهم، ممن رأوا أو أدركوا أو ربما شعروا بكيد أمريكا ونقمتها علي العالمين العربي والإسلامي، وبروز مطامعها في أن تكون هي الوريث لهذا “الاحتلال” الذي سبق وأن رفضوه وعادوه..كما كان من اليسير استيضاح الشيئ الكثير عن قضية “الإسلام-فوبيا” التي تسود في الغرب، ومن ثم قراءة أفكار الحرب علي “الإرهاب” باعتباره نقطة ما في تلك المساحة، والتي حاولت الشعوب الغربية نفسها تجاوزها بالاقتراب من الإسلام والتعرف عليه من قرب، حتي أثمر ذلك الدخول فيه بكثافة هناك، وهو ما لم يكن بعيدا عن شعوبنا في المناطق العربية والإسلامية، حيث كانت هناك صحوة في تعميق الإنتماء لهذا الدين، وتفعيله في الحياة..
*****
أما اليوم..و إبان هذا المؤتمر المنعقد في محضن الانقلاب وعلي مقربة من صوت الجنائز المتتابعة التي خرجت تواري في الثري جثامين زهور تلك البلاد الشابة التي قتلها مضيفهم شنقا أو بالرصاص الحي أو تعذيبا في السجون..برز هناك تأصيل جديد لمفهوم “الإهاب” يبدو أنه كان في مرحلة الإعداد طوال الفترة السابقة التي شهدت ثورات الربيع العربي، وقد آن الأوان له أن يظهر؛ فإذا كانت كل تلك الوفود تعلم ما يمور بمنطقتنا من ثورات منذ ثمان سنوات، وإذا كانت تلك الدول الغربية نفسها قد شهدت انتفاضات لم تبرد بعد من شعوبها تطالب بالمزيد من الحقوق والحريات، وإذا كان الجميع يعلم ضمنيا أن هذا المؤتمر ما هو إلا مشهدا يروج فيه انقلاب مصر لشرعيته المكذوبة ليكتب عقبه سطرا في دفتر انجازه الوهمي..فإذا كانت تلك هي سياقات انعقاد المؤتمر، فعليها يكون بند محاربة الإرهاب في برنامج عمله ما هو إلا مرادفا لضرورة مجابهة الشعوب الطامعة إلي الحرية والعدل، فهو إذن اجتماع بين عدد من قادة الدول العربية والأوربية تتفق -إن لم تكن تتآمر- فيه علي قمع الشعوب، وإسكات صوتها، لتتكرس بذلك ثنائية شديدة الحدية كانت في الخفاء قديما، واليوم يتم الإعلان عنها بكل جلاء، ألا وهي رأس السلطة في مواجهة الشعوب..والحقيقة أن الأقرب للصواب أن تلك المواجهة ستكون علي دولنا العربية بشكل خاص لأن غيرنا من الشعوب الغربية قد نجحت إلي حد ما في إيجاد عدد من السُبل لغل يد حكامهم بعض الشيء.
ومن المهم هنا الإشارة إلي أن النظرية الإعلامية التي ستكون داعمة لتلك الدلالة الجديدة هي نظرية “التعرض الإنتقائي” حيث صارت وسائل الإعلام من الكثرة والتعدد بحيث بات من العسير تحديد أيها سيؤثر وأيها لن يؤثر، وهو ما يلقي بالكرة في ملعب المتلقي ويضع عليه عبئا كبيرا في الحسم، وإن كانت هناك في ذلك بعض التحديات والتي منها أن الجمهور عادة ما يطالع من هو علي شاكلته، وقليل من يفعل غير ذلك، يجتمع مع هذا اختلال الميزان من حيث الكم والإمكانيات بين إعلام الانقلاب في مصر علي سبيل المثال وبين غيره من الإعلام الشعبي أو المناهض..
والجدير بالتركيز عليه الآن أن القضية صارت هي قضية الشعوب؛ فالاتهام أصبح يشير إليها هي، ويحملها كافة تلك الدلالات الموضوعة لمفهوم “الإرهاب”، ولا أتصور أن هناك أحد يمكنه أن يزعم أنه بمنأي عن هذا الاتهام وأنه سيعيش وسط هذا الضجيج بأمان، طالما فكر ولو في خيال أن له حقا مهما صغر، فهو يمثل خطرا و”عنفا محتملا” يجب الحمل عليه لاجتثاثه قبل أن يستفحل؛ فيد البطش قد طالت الجميع ليس فقط الرافض أو المعارض، بل و الصامت والقانع، وكذلك المؤيد والمحابي..
أما الوجه الآخر للصورة فلا يوجد به سوي ملامح شعب واعٍ قرر أن يبحث ليعرف الحقائق ولم يكتفي بما تمليه عليه قنواته المفضلة أو مقدم البرنامج الأكثر شيوعا، ثم تطور فعله من وعي كامن إلي حركة تتحمل ما يُرمي عليها من سهام الاتهام، بل وتتطور في فعاليتها ونشاطها يوما بعد يوم، ولا يهم في ذلك إذا كانت تتحرك ببطيء أو بسرعة، المهم أنها تتحرك، وتستعد في كل غد لما هو أعلي من مستوي حركتها اليومي؛ لأنه من المؤسف أن غير ذلك مما يظهر الشعوب بحالة الضعف والعجز والسكون والركود، لا يُبقي فقط الشعوب في خانة الاتهام، وإنما لن يكون لها محل من الأساس؛ فهي وإن كانت الآن خصم في مواجهة خصم، فبصمتها سيسود خصمها وتضمحل هي وتصبح لاشيء، ويتم سرقتها وإفقارها وسجنها حتي بدون البحث عن مفردات تجميلية لهذا الصنيع..

إن نشاطا بين شعوب العالم الطامع إلي الحرية لابد أن يدبّ ويسري وينتعش بكل قوة، يهتم ليصنع وعيا مقاوما يأتي بثمار إيجابية كما حدث إبان الفترة الأولي والثانية من تحولات مفهوم الإرهاب بنسب متفاوتة.. ثم يكون البحث عن مناشط وكيانات تأسيسية تعطي لتلك الشعوب الفعالية والحضور المطلوب علي المستويات العالمية فتصبح رقما هاما في المعادلة وليست لقمة سائغة متاحة للجميع…وهناك بالفعل سابق خبرات في انشاء اتحادات وائتلافات جدير بأن يبني عليها، خاصة إذا تم في ذلك الاستفادة من وسائط ومنصات التواصل والاعلام الاجتماعي..
إن الوقت لم يضع بعد، ولكن علينا صدق العزيمة والسعي دونما تردد أو فتور..

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها