كواليس حكومة المشيشي بتونس.. كيف خسر الرئيس وفاز مرشحه؟

- ‎فيتقارير

شهدت جلسة منح الثقة داخل البرلمان التونسي يوم الاثنين الماضي 31 أغسطس 2020م لحكومة هشام المشيشي محطات بالغة الغرابة؛ ذلك أن الرئيس قيس سعيد هو من اختار المشيشي لتشكيل الحكومة في أعقاب إقالة حكومة إلياس الفخاخ لأسباب تعود إلى وجود دلائل على شبهات فساد بحق الفخاخ. لكن المثير في الأمر أن المشيشي الذي اختاره الرئيس ليكون ساعده الأيمن ضد الأحزاب والبرلمان وأداته للهيمنة على جميع مفاصل السلطة التنفيذية اتخذ خطوة مفاجأة أربكت حسابات الرئيس ودفعته إلى الاجتماع بالأحزاب قبل جلسة منح الثقة من أجل إسقاط حكومة المشيشي قبل منحها الثقة؛ حتى يتردد في الأوساط التونسية أن الخلفيات والكواليس التي جرت بها منح الثقة لحكومة المشيشي بنحو 134 عضوا من أصل 218، تمثل خسارة للرئيس وانتصارا لمرشحه على رأس الحكومة!.

وبحسب الكاتب والمحلل السياسي صلاح الدين الجورشي في مقاله المنشور الخميس 3 سبتمبر 2020م بعنوان "حكومة المشيشي في تونس: خسر الرئيس وانتصر مرشحه"، فإن الأحزاب التونسية اعتبرت منح الثقة لحكومة المشيشي انتصارا لها على الرئيس قيس سعيد. لماذا؟ لأن أحدا لم يتوقع أن الرجل الذي تمّ انتقاؤه بعنايةٍ (المشيشي)، سيتخذ مسافة من الرئيس الذي أصبح بدوره غير راغبٍ فيه ويتمنى إسقاطه في البرلمان؛ حيث كان سعيّد يتوقع أن يكون المشيشي ساعده الأيمن والوفي له، لتعزيز نفوذه داخل مؤسسات الدولة، وأن يستعين به من أجل تحجيم دور الأحزاب وتقليص نفوذها وتقليم أظافرها. كما اعتقد أن المشيشي سيبقى بعيدًا كل البعد عن خصوم الرئيس السياسيين، وفي مقدمهم حركة "النهضة" و"قلب تونس".

ويرى الجورشي أن المشيشي أثبت فعلا أنه يتمتع باستقلالية ذاتية؛ فهو من جهة لم يفكر يوما في الاقتراب من أي حزب أو تيار سياسي؛ لكنه اصطدم بإصرار القصر الرئاسي على التوسع في تعيين أعضاء الفريق الحكومي. لم يعترض على ذلك بداية الأمر، لكنه في لحظة ما شعر بكونه قد أصبح مخيّرًا بين أمرين: الاستسلام لرغبة القصر، ما سيجعل منه وزيرًا أول ضعيفًا، كما كانت الحال في عهد الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، أو أن يتمسك بالصلاحيات التي حدّدها الدستور، فيكون بذلك رئيسًا حقيقيًا للحكومة يتمتع بكامل الصلاحيات، وهو الطريق الذي اختاره في النهاية، وقرّر أن يسلكه، ويسير فيه إلى الآخر.

غضب ومناورة

المسافة التي اتخذها المشيشي عن الرئيس وسلوكه نهج الشخصية المستقلة؛ أغضب الرئيس التونسي كثيرا؛ فقام بخطوة غير مدروسة حين اجتمع برؤساء الأحزاب الأربعة التي شكّلت حكومة الفخفاخ، ومن بينها "النهضة"، وذلك ليلة انعقاد جلسة البرلمان. هذا الاجتماع المفاجئ الذي قيل عنه الكثير، والذي استمر لأكثر من ثلاث ساعات، تخللته أحيانًا فترة من الصمت الجماعي. التفت رئيس الدولة إلى ضيوفه، خصوصًا رئيس البرلمان و"النهضة" راشد الغنوشي، وأكد على أنه لا ينوي حلّ البرلمان وفق ما يسمح له به الدستور في حال عدم التصويت على حكومة المشيشي. كأنه بذلك يطمئن الأحزاب التي تخشى الذهاب إلى انتخابات مبكرة، وما عليها في المقابل سوى التخلي عن إنقاذ المشيشي.

ويضيف الجورشي، "وما زاد في إضفاء الغموض على هذا السيناريو، استعداد رئيس الجمهورية لتفعيل المادة 100 من الدستور التي تتعلق بحالة حدوث شغور على رأس الحكومة، وذلك من خلال إبعاد الفخفاخ الذي أحيل ملفه المتعلق بتضارب المصالح على القضاء، والإبقاء على حكومته المستقيلة مع تعيين أحد وزرائها ليتولى رئاستها".

فاجأ سعيّد الجميع بحسب الجورشي بهذا الاقتراح الغريب والمثير للجدل، الذي كشف عن مدى حرصه على تكييف بعض الجوانب الدستورية من أجل الاحتفاظ بإدارته للشأن الحكومي وكل مكونات السلطة التنفيذية، وهو ما اعتبره بعض خصومه محاولة منه لإحداث "انقلاب ناعم". غير أن النتيجة جاءت معاكسة للنوايا الرئاسية، وهو ما عبّر عنه النائب في البرلمان، الصافي سعيد، بطريقته حين قال إن رئيس الدولة "أراد تعيين رئيس حكومة لإسقاط الأحزاب، فإذا به يستنجد بالأحزاب لإسقاط المشيشي". بل إن النتيجة أدّت إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث وفر سعيّد فرصة للأحزاب المخاصمة له، والتي استفادت من ذلك واختطفت رئيس الحكومة المُكلف من يديه، وقدمت له الدعم السياسي الذي يحتاجه.

صدام أم وئام؟

ويرى الجورشي أن حصول حكومة المشيشي على 134 صوتا يعني أن الأحزاب التي خاصمها الرئيس تحاول حشره في زاوية ضيقة ودفعه نحو الاعتراف بالهزيمة. ويستدل على ذلك بتصريحات راشد الغنوشي ، رئيس البرلمان وحركة النهضة، على إثر انتهاء عملية التصويت إن "البرلمان ممثل الشعب وصاحب السيادة ومصدر السلطات"، وفي ذلك رسالة مباشرة إلى رئيس الجمهورية الذي يرفع شعار "الشعب يريد". كما طالبه رئيس "قلب تونس"، نبيل القروي، بـ"الاعتذار من الشعب التونسي واحترام الدستور وعدم التدخل في صلاحيات رئيس الحكومة".

وينتهي الجورشي إلى أن هذه اللغة الانتصارية للأحزاب، لن تدفع بقيس سعيّد إلى الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، وإنما قد تدفعه نحو ردود فعل من شأنها أن تضفي مزيدًا من التعقيد على المشهد السياسي. فعلاقة ساكن قرطاج برئيس الحكومة قد تصبح أكثر انكماشًا، وقد يعود الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية كما كان من قبل في عهد الباجي قايد السبسي، في ظلّ حكومة يوسف الشاهد مع اختلاف الأشخاص والسياقات والخبرات. أم ربما يعود الرشد للجميع في ظلّ المخاطر الاقتصادية والاجتماعية التي تهدد البلاد والعباد.