لندن أم واشنطن.. مَن يُحدِّد الملوك في السعودية العظمى؟!

- ‎فيتقارير

من يعنى بالتطورات السياسية داخل البلاط الملكي السعودي وبمتابعة تفاصيلها عن كثب، سينتهي حتمًا إلى قناعة بأن التاريخ قد تعامل بشيء من الرفق مع بدايات التفاعل السياسي ومسلسل الصراعات داخل بلاط آل سعود، هذا بالرغم من وجود وقائع يصعب فصلها عما آلت إليه الأمور حديثًا من تعقيدات فاقت تقديرات من بيدهم مقاليد الأمور، وخرجت بشكل أو بآخر عن سيطرتهم الكاملة!

لذا ربما سيكون لزامًا استدعاء بعض الوقائع التاريخية الهامة لتفسير تداعيات الوضع الحالي، والتي سيكون من شأنها إلقاء الضوء على النوايا الحقيقية للأطراف كافة، قبل فقد دفة السيطرة على مستقبل المنطقة العربية برمتها، بوضعها في يد رعناء قد لا ترقى بفكرها وسلوكها المتهور لمستوى قيادة منطقة بحجم الشرق الأوسط.
وأصدرت المحكمة الفيدرالية بالعاصمة الأمريكية واشنطن، أمر استدعاء قضائي بحق ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في قضية محاولة اغتيال ضابط الاستخبارات سعد الجبري.

وذكرت قناة الجزيرة نقلًا عن وسائل إعلام أمريكية، أن استدعاءات محكمة واشنطن تشمل 13 شخصًا بينهم مقيمان في الولايات المتحدة بالإضافة لولي العهد السعودي.
وأضاف المصدر أن أمر القرار تضمن أيضًا استدعاء المسؤولين السعوديين أحمد العسيري وبدر العساكر وسعود القحطاني، كما أن استدعاءات المحكمة شملت مقيمين في الولايات المتحدة هما يوسف الراجحي وليلى أبو الجدايل.

وتسعى السلطات السعودية منذ فترة لاستدراج ضابط الاستخبارات السابق إلى الرياض، وتخشى على الملفات التي يحملها معه للمهام التي اضطلع بها في الجهاز وقربه من ولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف.
وبذلت جهات مقربة بن سلمان جهودا لتشويه صورة الجبري وترويج معلومات من قبيل أنه متابع وملاحق في قضايا فساد.

وشغل الجبري منصب وزير دولة، وكان أحد كبار الضباط بالداخلية السعودية، وهو خبير في الذكاء الاصطناعي، ولعب أدوارًا رئيسية في معركة المملكة ضد القاعدة وتنسيقها الأمني مع الولايات المتحدة. ووقع ضحية الصراع بين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان على ولاية العرش وتبؤ عرش المملكة، ويلاحِق سعد الجبري، وليَّ العهد السعودي محمد بن سلمان في المحاكم الأمريكية بعدد من التهم منها محاولة اغتياله على طريقة جمال خاشقجي.

ونشرت "الحرية والعدالة" تقريرًا عن معلومات أوردتها صحيفة "ذا ستار الكندية" في تقرير لها، أنه بعد أيام قليلة من القتل الوحشي لخاشقجي في تركيا عام 2018، أرسل بن سلمان مجموعة من القتلة المعروفين باسم "فرقة النمر" إلى كندا للبحث عن، وقتل، أحد كبار رجالات المخابرات السابقين.

وشملت الدعوى المرفوعة أمام محكمة الجزاء في واشنطن وفق رواية المصادر الكندية، عددًا من المسؤولين والمقربين من الأمير محمد بن سلمان، وبعضهم من المتورطين في اغتيال خاشقجي.
ويتهم الجبري في دعواه مثلما نقلت صحيفة "ذا ستار الكندية"، محمد بن سلمان شخصيًا بإرسال مجموعة من فرقة الاغتيالات المعروفة باسم "النمر" إلى كندا، بهدف تصفيته، على غرار ما حدث مع خاشقجي، وذلك بعد زرع برنامج تجسس على هاتفه لملاحقته.

بريطانيا
نشر موقع "ميدل إيست آي" مقالا للمؤرخ والكاتب مارك كيرتيس، يتحدث فيه عن تداعيات حادثة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، ويقول: "في الوقت الذي يزداد فيه الضغط على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بشأن مقتل جمال خاشقجي، فإن لدى صناع القرار في واشنطن ولندن أولوية مهمة، وهي: الإبقاء على آل سعود كونهم حليفا اقتصاديا وعسكريا استثمروا الكثير فيه، لكن إن لم يكن بالإمكان إبقاء محمد بن سلمان، فإنه من المحتمل أن تعمل بريطانيا وأمريكا على نقل السلطة لحفظ الماء الوجه إلى أحد أقاربه".

ويشير الكاتب في مقاله إلى أنه كانت هناك تقارير تفيد بأن العائلة الحاكمة بدأت في نقاش احتمال استبدال ولي العهد، مستدركا بأن هناك أيضا سابقة غير معروفة على نطاق واسع لدور غربي في عزل زعيم سعودي.

ويكشف كيرتيس عن أن "الملفات الحكومية البريطانية، التي رفعت عنها السرية، تظهر بأن بريطانيا دعمت سرا انقلابا في القصر في السعودية في الماضي، وحصل هذا الانقلاب عام 1964، لكن صداه الغريب لا يزال حتى أيامنا هذه، لقد ساعدت ولي العهد حينئذ الأمير فيصل على أن يخلع أخاه الأكبر الملك سعود، الذي حكم منذ عام 1953 بتأييد بريطاني للحفاظ على آل سعود".

ويلفت الكاتب إلى أن "فيصل كان مع أواخر الخمسينيات، مثل ابن سلمان اليوم، يعد القوة الحقيقية في السعودية، وكان يدير الحكومة، لكن في ديسمبر 1963 أراد الملك سعود أن يفرض سلطته بنشر قوات ومدافع خارج قصره في الرياض، فوقعت مواجهات مع القوات الموالية لفيصل، استمرت حتى حلول عام 1964، عندما طلب سعود من فيصل عزل وزيرين من حكومته لتعيين اثنين من أبنائه مكانهما".

ويستدرك كيرتيس بأن "الدعم الضروري لفيصل جاء من خلال الحرس الوطني، والمؤلف من 20 ألف شخص، وتقع على عاتقه مسؤولية حماية العائلة المالكة، وكان قائد تلك القوات في وقتها الأمير عبدالله، الذي أصبح فيما بعد ملكا حتى وفاته عام 2015، عندما تحولت السلطة إلى أخيه غير الشقيق الملك سلمان، والد محمد بن سلمان".

ويتساءل الكاتب: "من كان يدعم الحرس الوطني؟ في وقتها، كما هو الآن، كان لبريطانيا وجود عسكري في البلد، بعد طلب من السعودية عام 1963، وتظهر الملفات البريطانية، التي رفع عنها الحظر، أن مستشارين بريطانيين للحرس الوطني، هما اللواء كنيث تمبريل والعقيد نايجل بروميغ، وضعا خططا بناء على طلب صريح من عبدالله (لحماية فيصل)، و(الدفاع عن النظام)، و(احتلال نقاط معينة)، و(منع الجميع من محطة الإذاعة ما عدا الذين يدعمهم الحرس الوطني)".

ويفيد كيرتيس بأن "هذه الخطط البريطانية ضمنت حماية فيصل شخصيا؛ بهدف ضمان انتقال السلطة كاملة له، وهذا ما حصل عندما اضطر الملك سعود للتنازل عن العرش".

ويفيد كيرتيس بأن "تدريب البريطانيين للحرس الوطني السعودي زاد، وزادت صادرات الأسلحة البريطانية له بعد عام 1964، واليوم لدى بريطانيا عشرات المستشارين العسكريين للحرس الوطني، ومشروع كبير للمساعدة في (الاتصالات)، وتبقى مهمة الحرس الوطني التركيز على الحفاظ على (الأمن الداخلي)- وهذا يعني الحفاظ على آل سعود".

ضغوط أمريكية
حذرت روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية من ممارسة أي ضغوط على ترتيب الخلافة الملكية في المملكة العربية السعودية، معربة عن دعمها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان.
وقال مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، في مقابلة مع وكالة "بلومبرغ"، إن الأمير محمد له كل الحق في وراثة العرش عندما يموت الملك سلمان البالغ من العمر 82 عاما.

وأضاف: "بالطبع نحن ضد التدخل، وعلى الشعب والقيادة في السعودية أن يقرروا مثل هذه المسائل بأنفسهم. لقد اتخذ الملك قرارا، ولا يمكنني حتى أن أتخيل على أي أساس سيتدخل شخص في أمريكا في مثل هذه القضية ويفكر في من ينبغي أن يحكم المملكة العربية السعودية، الآن أو في المستقبل. هذه مسألة سعودية".

ويبين الكاتب مارك كيرتيس أن "أمريكا لديها برنامج أكبر للتدريب و(التحديث) مع الحرس الوطني، وبقيمة 4 مليارات دولار، وهي الأكبر احتمالا لأن تؤدي دورا شبيها بالدور الذي أدته بريطانيا عام 1964".

إبان الحرب العالمية الأولى يتضح لنا من سياق الأحداث ومن خلال بعض الوثائق الهامة، ملامح التدخل البريطاني في تحريك الأمور لصالحها داخل الجزيرة العربية.

أهم تلك الوثائق، والتي عرفت باسم "مراسلات الحسين مكماهون" كانت بمثابة المستند الرسمي الدال على وقوع المملكة السعودية بالكامل في كنف الهيمنة البريطانية دون غيرها.. الشريف حسين بن علي الهاشمي 1854 : 1931 الذي عينه السلطان عبد الحميد الثاني أميرًا على مكة خلفًا لعمه في شتاء 1908، كان له طموح الجلوس على عرش الجزيرة العربية، وقد دارت عدة مراسلات مهمة بينه وبين ممثل التاج البريطاني في مصر آنذاك السير أرثر هنري مكماهون 1862 : 1949 وكان موضوع تلك المراسلات يدور حول المستقبل السياسي للأراضي العربية في الشرق الأوسط.

وقد نجح مكماهون في خداع شريف مكة، ووعده باعتراف بريطاني باستقلال العرب بدولتهم عن الدولة العثمانية حال قيامهم بثورة تساعد بريطانيا على إسقاط التاج العثماني. وتتوالى الأحداث، وتفتضح نوايا بريطانيا الاستعمارية في المنطقة بعد ظهور بنود اتفاقية سايكس بيكو السرية على السطح، ومعها تنحسر أحلام عرب الجزيرة في تكوين مملكة يتوارثها أبناء آل سعود وأبناء عمومتهم من الهاشميين، على أن يظل حكمهم دائمًا تحت رعاية وحماية خاصة توفرها الدول العظمى المهيمنة على المنطقة.

أدركت بريطانيا أن أرض الجزيرة العربية تسبح فوق بحر من خام النفط، وأن من يسيطر عليها سيملك مفتاح التحكم السحري في أغلى مادة سيعرفها التاريخ خلال المائة عام التالية، لهذا سعت بريطانيا جاهدة في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، وعن طريق صديقها المقرب عبد العزيز آل سعود 1875 : 1953 مؤسس الدولة السعودية الحديثة إلى ضرب الدولة العثمانية من داخل شبه جزيرة العرب، فالرجل من نسل آل سعود الموالون لبريطانيا منذ تأسيسهم لأول دولة لهم على المذهب الوهابي المتطرف في داخل دولة الخلافة العثمانية، تلك الدولة التي قُدر لها أن تتداعى في سنة 1818م على يد محمد علي باشا والي مصر تحت التاج العثماني آنذاك، الأمر الذي ربما ترك جرحًا غائرًا داخل نفوس حكام الجزيرة العربية تجاه مصر حتى هذا الحين.

في أوائل القرن العشرين، وجدت بريطانيا أن آل سعود مازالوا هم أفضل من يُمكن توظيفه لتثبيت الاستعمار وحراسة أطماعه التوسعية بعد سقوط الدولة العثمانية، لذلك مكّنوهم من حكم الحجاز ونجد، وأخرجوا حلفاءهم الهاشميين من الحجاز في مقابل تعويضهم عنها في الأردن والعراق، وبعد ظهور خام النفط بكميات هائلة، وتطلع الولايات المتحدة الصاعدة للساحة لنصيبها من الكعكة النفطية الثمينة، طالبت الأخيرة بريطانيا رسميًا بمنحها حصة من نفط الخليج.

رفضت بريطانيا في بداية الأمر، ولكن ربما تحت ضغط الحسابات المستقبلية، سرعان ما رضخت ومنحتها حصة في نفط السعودية، واستأثرت لنفسها بنفط إيران والعراق والكويت، وقد جاء قبول بريطانيا بإعطاء الولايات المتحدة حصة محددة من نفط السعودية لسببين، الأول هو مكافأة لها على مساعدتها إياها في الحرب العالمية الأولى.
والثاني هو ضمان ولائها لها في حروب المستقبل، وبالرغم من أن بريطانيا كانت قد تنازلت للولايات المتحدة عن حصة دسمة من نفط السعودية مكنتها من توسيع نفوذها هناك، إلا أنها احتفظت لنفسها بالسيادة والسيطرة العامة على الجزيرة عسكريًا وسياسيًا.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية 1939 : 1945، جاء فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط، واجتمع بالملك عبد العزيز في قناة السويس على ظهر الطراد الأمريكي يو أس أس كوينسي في فبراير 1945 بحضور ملك مصر وإمبراطور إثيوبيا، ويقال إن الملك عبد العزيز همس لروزفلت حينها حرفيًا: أنت أخي وكنت أشتاق دائمًا إلى رؤيتك، وأريد أن يكون تعاملي معك أنت وليس مع غيرك، لأنك رجل مبادئ ونصير للحقوق، ونحن العرب نتطلع إليك في طلب العدل والإنصاف من تحكم واستبداد الآخرين.. وقد كان يعني بهذا الإنجليز..!