مراجعات السلفية

- ‎فيمقالات

يُعرَّف «السَّلفُ» بأنهم: «المسلمون الذين عاشوا فى القرون الثلاثة الأولى من ظهور الإسلام؛ مصداقًا لحديث النبى -صلى الله عليه وسلم-: «خيركم قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». أما المعاصرون الذين يرفعون لافتة «السلفية» فهم الذين يعلنون اتباعهم نهج هؤلاء السلف الكريم، ويسيرون على طريقتهم فى الأكل والشرب، والسلم والحرب، والمنشط والمكره… فهل أحسنوا الاتباع مع تغير الزمان والمكان والأحوال؟ أم لم يحسنوا؟
لا شك أن «السلفيين» كان لهم دور مهم فى العمل الدعوى العام، وجهد لا يُنكر فى حفظ العلم ونشره، وإحياء سنن، وإماتة بدع.. إلا أنهم مع هذا الجهد المشكور كانت لهم آراء وأفكار لو كان «السلف» أحياء لخاصموهم عليها، وهذه الآراء «المتصلبة» لا نبالغ إذا قلنا إنها أضرت الدعوة من حيث أرادوا نفعها، وصرفت الناس عن «منهج السلف» من حيث أرادوا جذبهم إليه. والسبب فى هذا كله أنهم أخذوا المنهج القديم كما هو، نقلوه بزمنه وبيئته إلى بيئة القرن العشرين الحافلة بالمستجدات العصرية؛ فوقع التفاوت الكبير بين ما يتداولونه من فتاوى ونصوص من ناحية، وبين واقع الناس من ناحية ثانية.

اقتنع «السلفى المعاصر» أن المجتمع الحالى هو نفسه مجتمع القرون الأولى، فانطلق يدعو كما كان يدعو الأولون، جلُّ اهتمامه منصبٌّ على الهَدْى الظاهر؛ لحية وجلباب وسواك وطيب، وما عدا هذا الهدى الشريف من التعرف على مداخل الهداية وسبل اجتذاب الآخرين -على تفاوت اهتماماتهم- فلا مجال له فى دعوتهم، بل قسّموا الناس إلى مسلمين وغير مسلمين، وفى داخل كل قسم أقسام أخرى؛ كأنهم قضاة على الناس وليسوا دعاة. من هنا نلحظ اهتمامهم بمسائل التبديع والتفسيق، ومن هنا أيضًا نلحظ استعلاءهم؛ حيث وضعوا أنفسهم على رأس قائمة القسم المسلم، بل اعتبروا أنفسهم –دون غيرهم- حملة العلم، حفظة الدين.
وللأسف؛ فإن النصوص وحدها لا تكفى، بل يلزمها الفهم، والاختلاط بالناس؛ حتى تأتى الفتوى صحيحة والحكم صائبًا؛ فما يصلح فى وقت لا يصلح فى وقت آخر، وما تقبله بيئة معينة قد لا تقبله بيئات أخرى، ومدار الأمر هو نفع المسلمين وحفظ الدين دون اصطدام بشرع أو وقوع فى إثم. ولما اكتفوا بالنصوص وحدها وبتفاسيرها القديمة لم يتعدوها حصروا أنفسهم فى المظهر دون المخبر، وفى الشكل دون المضمون، وخرَّجوا على هذا النمط المنكفئ على نفسه، الغريب عن الواقع، أجيالاً كارهة للحاضر، رافضة للتغيير، سريعة الاشتباك مع الآخر واتهامه فى دينه، وقد أهملوا القضايا الكبرى، وأهدروا الطاقات فى معارك هامشية وقضايا خلافية.
فى مطلع التسعينيات وقعت حرب البوسنة التى راح ضحيتها الآلاف من المسلمين، غير اغتصاب (50 ألف) مسلمة تحت سمع وبصر المنظمات الدولية. صممتُ وقتها عددًا من مجلات الحائط تشرح -بالصورة- القضية بشكل مبسط، ووزعتها على عدد من المساجد المحيطة بسكنى.. وفى أحد الأيام وجدت صور إحداها مطموسة والمجلة نفسها ممزقة، فسألت من فعل هذا؟ قالوا: شاب غريب فعل ذلك وفرّ وهو الآن فى بيت الأستاذ فلان (مدرس ثانوى تجارى). انتظرته حتى خرج، وجدته مراهقًا ذا لحية لم تكتمل الإنبات، فى الصف الثالث الثانوى التجارى، راسب فى مادة الأستاذ فلان، وكان عند الأستاذ (فلان) يأخذ درسًا خصوصيًّا قبل امتحان (الملحق). سألته: لم فعلت هذا؟ قال: التصوير حرام، قلت: هل قرأت ما فى المجلة؟ قال: لم أقرأ ولن أقرأ، قلت: هل سمعت عن ما يجرى للمسلمين فى البوسنة؟ قال: لا، لم أسمع بشىء، قلت: من قال لك إن التصوير حرام، قال: هذا معروف، وهذا رأى مشايخى. قلت هداك الله وهدى مشايخك، أو أخذكم غير مأسوف عليكم. وانصرف (التلميذ الخايب) فلم أره بعد هذا اليوم، وربما صار الآن شيخًا مبجلًا!

هذا النمط من التربية أوقع «السلفية» فى محاذير خطرة، ونفاهم إلى اجتهادات كارثية لعل أخطرها تأييد الحاكم أيًّا كانت طريقة حكمه أو ظروف وصوله إلى السلطة؛ فرأينا «المداخلة» يحللون للطغاة -الذين يحاربون الدين- القتل والزنى وشرب الخمر، ويمكن أن يُبث ذلك على الهواء تشاهده الجماهير-إى والله قالوا هذا- ورأيناهم بوقًا لأنظمة الجزيرة الملكية الفاسدة. وقد أسهموا –بالفعل- فى مؤامرات صريحة ضد الإسلام، وشاركوا -ولا يزالون- فى إجهاض ثورات الربيع العربى؛ حيث يتصدرون الانقلابات والثورات المضادة، مخالفين إجماع التيارات الإسلامية الأخرى.

وإذا كان أنصار الشيخ «الحوينى» قد تعجبوا من قيام الدنيا وقعودها رغم أنه لم يقل بمراجعة صريحة ولم يعترف بخطأ فى طريقة أو منهج- أقول لهم: لا تتعجبوا، إنما كانت نصيحة شيخكم (العفوية) للشباب هى التى وجهت الأنظار إلى باب يجب فتحه، ونيران يجب إخمادها، وقد وقع –فى السنوات الأخيرة- زلزالان كبيران كان يجب أن تراجعوا بعدهما المنهج كله؛ أقصد بهما: ما وقع فى مصر من خيانة الدعوة التى بالإسكندرية وحزبها الشقى، وما جرى مثله فى البلاد العربية التى شهدت ثورات. الزلزال الثانى؛ ما أعلنه ابن سلمان فى حواره مع «الواشنطن بوست» -فى مارس 2018- وقال فيه «إن بلاده استخدمت السلفيين بطلب الحلفاء لمواجهة السوفييت»، كأنه يقول: الآن انتهت مهمتكم. والتغيرات فى السعودية وغيرها تشهد بذلك، وها قد صرتم خصومًا لحليف الأمس، ألا يتطلب هذان الزلزالان المراجعة، وأن تغيروا طريقتكم فى الدعوة التى جعلتكم لا ترون من الفيل إلا ذيله ومن الشرائع إلا ما تستوعبه (أفهامكم)؟