العدل هو أبرز القيم التي تدور حولها قيم الحق والخير والفضيلة، به قامت السموات والأرض، واستقرت أمور الخلق وقد سمّى الله به نفسه، ومدح به ذاته العليّة، وقال “إن الله لا يظلم مثقال ذرة”، وقال “إن الله لا يظلم الناس شيئا”، وأجل ّ مظاهر العدل وأولاها بالاحتفال: الانتصاف للمظلوم من الظالم والانتصار للحق من الباطل، ولو كان أحد المتقاضين قريبا من القاضي حبيبا إليه والآخر بعيدا عن القاضي بغيضا إليه، قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون”.
ولا يستقر هذا العدل في واقع الناس إلا بعد أن يستقر في ضمير القاضي وتنطبع به نفسه، فالعدل في نفس وضمير القاضي قبل أن تصوغه القوانين أو تضبط نظامه إجراءات المحاكمات.
ولهذا، فإنني حين أقف بين يدي الهيئة الموقرة فإنما أتحدث إلى ضمائرها الساهرة على رعاية العدل واستخلاص الحق، وأخاطب بضمائرها النافذة إلى تمييز الحق من دعاوى الباطل والزور، فأقول وبالله التوفيق:
بداية أؤكد انضمامي وتمسكي بما سبق أن طلبه الزملاء، خصوصا ما يتعلق بالقرص الصلب المقدم من رئيس جمعية رابعة العدوية، وتقارير تفريغ الأقراص المدمجة التي قامت بها اللجنة الفنية بأمر المحكمة، وضم شهداء الفض وبخاصة الذين تضمنت أوراق القضية تقارير الطب الشرعي بمقتلهم، وسماع الشهود الذين لم نسمع شهادتهم.
وأرجو أن يتسع صدر المحكمة الموقرة لحديثي المختصر جدا حول ثلاث نقاط:
الأولى: ما يتعلق باتهامي بالانضمام لجماعة أُسست على خلاف الدستور والقانون تسعى لتعطيل الدستور وإعاقة عمل مؤسسات الدولة وتكدير السلم الاجتماعي، وتتخذ من العنف والإرهاب وسيلة لتحقيق أغراضها.. إلى آخر ما جاء من أوصاف لتلك الجماعة التي أؤكد يقينا أنني لا أعرفها، ولا يمكن لي كعالم من علماء الأزهر الشريف أن أقبل بمثل تلك الأفعال والأوصاف المنسوبة إليها فضلا عن أن أكون عضوا في أي جماعة تمارسها.
أما إن كان المقصود جماعة الإخوان المسلمين فهي براء تماما من كل ذلك، فإنها لم تعمل يوما خارج إطار الدستور والقانون منذ تأسيسها عام 1928م على يد الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله، وحتى الترخيص الذي أصدرته وزارة التضامن الاجتماعي في آذار/ مارس 2013 م ، ولا معنى على الإطلاق لاتهامها بالسعي لتعطيل الدستور، وهي التي كان من أعضائها ومؤيديها من يمثلون أكثر من ربع أعضاء الجمعية التأسيسية المنتخبة التي وضعت الدستور، وكنت أنا واحدا منهم ومعي زميلاي في هذه القضية الدكتور عصام العريان والدكتور محمد البلتاجي ضمن نخبة متميزة من الوطنيين المخلصين، ومنهم زميلنا في هذه القضية الأستاذ عصام سلطان.. فهل تجد العقول السليمة تناقضا أشد من اتهام المشرعين الدستوريين بأنهم أعضاء في جماعة تسعى لتعطيل الدستور؟ بل كنا بصدد التقدم للترخيص لجمعية لحماية الدستور يكون أعضاؤها هم أعضاء الجمعية التأسيسية، أما الذي أعلن تعطيل العمل بالدستور فهو بكل تأكيد ليس من الإخوان المسلمين.
وأشد تناقضا من ذلك اتهامهم بتعطيل مؤسسات الدولة وإعاقتها، وهم الذين حازوا ثقة الشعب في كل الانتخابات الحرة برلمانية كانت أو نقابية أو عمالية أو طلابية، وفي الذروة الانتخابات الرئاسية، وذلك لما لمس الشعب فيهم من حرص على حسن إدارة المؤسسات العامة والخاصة ولما رأى من دورهم البارز والمشرف في تبني كل قضايا الأمة وهمومها وسعيهم الجاد والدؤوب لحل مشاكلها، ولسجلهم الزاخر بالإنجاز في كل المجالات، وحملهم الخير للجميع وفق برنامج واضح محدد لاقى قبول الأمة وتأييدها، فأي عاقل يمكنه بعد ذلك تصديق اتهام الجماعة بتعطيل المؤسسات.. والإخوان هم الذين شهد لهم الجميع بالكفاءة والإخلاص في إدارة ما وكل إليهم منها بالانتخاب أو بالتعيين.
وأما اتهام الجماعة بالتطرف والعنف فمن أكذب الفرى وأوضح البهتان، ففكر الإخوان هو ذاته فكر الأزهر الشريف الوسطي المعتدل، وإنما اهتم الإخوان ببناء الإنسان على ضوء ذلك حتى يتحقق المواطن الصالح الخصال العشر اللازمة للتقدم والرقي والإبداع بأن يكون قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، صحيح العبادة، سليم العقيدة، منظما لشؤونه، قادرا على الكسب مجاهدا لنفسه، نافعا لغيره، وبه وبأمثاله يقوم المجتمع القوي وتبنى الأمة القادرة على منافسة أمم الأرض وأخذ مكانها المناسب في صدارة الحضارة العالمية.
وقد قام المرشد الثاني المستشار الجليل حسن الهضيبي بكتابة كتاب “دعاة لا قضاة”، وهو أحد الشواهد الواضحة على رفض الجماعة للغلو والتكفير، أما السلاح فلم يحمله الإخوان إلا في مواجهة المستعمر الأجنبي في فلسطين وعلى ضفاف القناة، مثل كل الفصائل الوطنية في حينه، وقد جعل الإخوان من ثوابتهم التي لا تقبل التغيير: السلمية ونبذ العنف، وأكد على ذلك كل قادتها بداية من المرشد المؤسس رحمه الله وحتى المرشد الثامن أ. د. محمد بديع الذي سمعه الملايين وهو يقول: “سلميتنا أقوى من الرصاص، سلميتنا سر قوتنا”، محذرا أن عجلة العنف إذا دارت حدثت الفتنة التي لا يعلم مداها إلا الله، وقد فشلت كل الأنظمة التي بالغت في العداوة عليهم في أن تستفزهم لتغيير ثوابتهم أو أن تجرهم إلى رد عنف الأنظمة الغاشم بعنف مقابل، حفاظا على وطنهم، وجعلوا شعارهم ما قاله خير ابني آدم لأخيه الشرير الذي هدده وقال لأقتلنك، فأجاب “قال لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين”، وبهذا الوعي الكبير فوتوا على كل الظلمة كل محاولات إشعال الفتنة في الوطن العزيز.
وقد أدرك المنصفون، وسيدرك الجميع لا محالة قريبا لماذا يصر الإخوان على ذلك ويؤثرون طريق السلمية على ما عداه ولتعلمن نبأه بعد حين. وسيبقى الإخوان صمام الأمان لأوطانهم التي سكنت قلوبهم قبل أن يسكنوا ديارها.
النقطة الثانية: ما يتعلق باتهامي بالتدبير والتحريض والمشاركة في أعمال العنف وقطع الطرق وتعطيل المؤسسات، وهي التهم التي لم تسعفني حصيلتي اللغوية بوصف مناسب لها إذ لم أعتد على استخدام الألفاظ التي ينقصها الذوق السليم، وسأطرح بإيجاز شديد على الهيئة الموقرة بعض الحقائق لترى ما إذا كان من الممكن والقابل للتصور عقلا إسناد تلك التهم لشخصي أو لا.
أولا: أقف الآن على أعتاب السادسة والخمسين من العمر “وإنّ أمرءا قد سار خمسين حجةً ~إلى منهل من ورده لقريبُ”، لم يسبق لي على الإطلاق دخول قسم شرطة أو الوقوف أمام نيابة عامة شاكيا ولا مشكوا ولا شاهدا في أي قضية أو خصومة، ذلك لأني حملت أهم رسالة لي في الحياة إصلاح المجتمع والإصلاح بين الناس وإقرار دعائم السلم الاجتماعي، وبفضل الله وحده قطع الله على يدي مئات النزاعات بين العائلات والأفراد وبين الأزواج، ولم أدخل في خصومة مع أي كان.
أفبعد أن شاب قرناي وأبيض عارضاي ومالت شمس عمري للغروب ينتهي بي العلم وحكمة الشيخوخة إلى المشاركة في قطع الطرق يا أولي الألباب؟
ثانيا: بعد أن تخرجت في كلية أصول الدين حاصلا على الترتيب الأول على الدفعة بامتياز مع مرتبة الشرف تم تعييني معيدا في الكلية عام 1985، ثم تدرجت في الوظائف الجامعية حتى درجة أستاذ عام 2003 ثم توليت رئاسة قسم السنة وعلوم الحديث، ثم عمادة الكلية عام 2011، وخلال هذه السنوات التي قاربت الثلاثين لم أتعرض لتوقيع أي جزاء إداري ولا مجرد لفت نظر على الإطلاق، أفيصح في العقول أن ينتهي بي هذا الانضباط العملي والأخلاقي إلى الاشتراك في قطع الطرق وتعطيل المواصلات والمؤسسات؟!
ثالثا: في نهاية عام 2011 م قام السادة علماء الأزهر الشريف من زملائي في الكلية بانتخابي عميدا بأغلبية قاربت الإجماع، فأنجزت بفضل الله ثم بمعونة الزملاء في عام ونصف ما لم يتم إنجازه على مدى نحو أربعين عاما هي عمر الكلية، سواء في البرامج العلمية والتعليمية أو التحديث التقني أو الإصلاح الهيكلي والإداري أو الخدمات الطلابية أو خدمة المجتمع أو النهوض العمراني والجمالي للمبنى ومحيطه، وجهزت بعد المدارسة مع الزملاء رؤية لتطوير الكلية بحيث تكون الأولى في مجالها إقليميا وعالميا وتصبح نموذجا لغيرها من الكليات، فهل يمكن أن يكون كل ذلك مقدمة للاشتراك في تشكيل عصابي لقطع الطرق وارتكاب الجرائم وتعطيل المؤسسات؟!
رابعا: في عام 2012/ 2013 م دعاني السيد اللواء سامي الروبي مساعد وزير الداخلية لمصلحة التدريب لإلقاء المحاضرات التوجيهية على المتدربين من ضباط وأفراد الشرطة، فألقيت الكثير منها حتى حزيران/ يونيو 2013، ومنها ما ألقيته في هذا المعهد الذي تتم فيه المحاكمة، وقد رفضت تقاضي أية مكافآت أو الانتقال بغير سيارتي الخاصة، وكان السيد المساعد حريصا على استقبالي عقب كل محاضرة لتقديم شكره وشكر الوزير وإعلان اغتباطهم بالمضامين التي أوجه بها المتدربين، فهل كانت وزارة الداخلية تستعين بزعيم في تشكيل عصابي وعضو في جماعة عنيفة وإرهابية لتوجيه ضباطها؟ على النحو الوارد في الاتهامات المرسلة في هذه القضية؟
خامسا: شاركت – كما سبقت الإشارة- في إعداد الدستور المصري بعد انتخابي عضوا بالجمعية التأسيسية، فما هو المنطق الذي يقبل اتهام المشرع الدستوري بعضوية جماعة مؤسسة على خلاف الدستور أو تسعى لتعطيله؟ إن هذا لشيء عجاب.
سادسا: ألفت خمسة وثلاثين كتابا في مختلف فروع الثقافة الإسلامية، وكتبت مئات المقالات في الصحف والمجلات على اختلاف توجهاتها، وقدمت عشرات البرامج وشاركت في مئات الحوارات والحلقات التلفزيونية في التلفزيون الرسمي وفي الفضائيات المختلفة، وألقيت آلاف المحاضرات والدروس والخطب والكلمات في الجامعات والمدارس والمساجد والنقابات والأندية وقاعات الاحتفالات، وأكثرها مرفوع على شبكة الانترنت على صفحتي الشخصية وغيرها من الصفحات المهتمة، وكلها تشهد بجهودي في الإصلاح وتدعيم السلم الاجتماعي والبناء الأخلاقي في المجتمع والأمة، ولم يجد كاتب التحريات ولا ممثل الإدعاء في شيء من هذا الإنتاج الضخم عبارة مرئية أو مسموعة أو مكتوبة يستندون إليها في الاتهامات المرسلة التي أطلقوها في هذه القضية وغيرها، ولم يجدوا إلا كل ما ينقض ويبطل تلك الاتهامات، فآثروا أن يغضوا الطرف عن نقل شيء منها إلى أوراق الدعوى.
سابعا: كمفكر ومثقف وكاتب وعالم الشريعة فإن موقفي واضح من العنف وواضح كررته كثيرا جدا قولا وكتابة، فأنا أنفر من العنف طبعا وخلقا، واستنكره دينا وشرعا، وأرفضه عقلا ومنطقا ووطنية، وأرى أنه إذا انبعث في المجتمع كانت أولى ضحاياه جهودي في الإصلاح التي بذلت فيها زهرة عمري، ولن تخلف غير الخراب والدمار والفتنة والأحقاد.
وقد ألفت قبل خمسة عشر عاما كتابي في “في شرح أحاديث تحريم الدم”، ودرّسته لطلابي على مدى أكثر من عشر سنوات متصلة لأقر في نفوسهم رفض هذا المسلك، وليقوموا بنشر ذلك الفهم الصحيح في المجتمع، وقد فعلوا، فهل يبقى للعقل السليم مجال لإمكان تصور اتهامي ممارسة العنف أو التحريض عليه أو الاشتراك في جماعة تتخذ منه وسيلة لبلوغ أهدافها؟
ثامنا: لم أسمع أحدا ممن أدلوا بشهادتهم في هذه القاعة ذكر اسمي في أي واقعة أو ذكر أنه رآني أفعل شيئا أو سمعني أقول قولا أو أقر لي بعبارة، مما يعد مؤثما قانونا، بل ولا ذكر أحدهم اسمي على الإطلاق، وهم الذين اكتفت المحكمة بشهادتهم في تصور القضية والأحداث والاتهامات، كما أنه على حد علمي خلت أوراق القضية من ذكر اسمي على لسان أحد ممن تم التحقيق معهم يقول إني حرضته أو شاركت معه أو مع غيره في فعل مؤثم قانونا، كما أن ما عرضته المحكمة من أقراص مدمجة جاء يخلو تماما من أي إشارة إلى شخصي أو من أي نقل مسموع أو مكتوب عني، ولذا فقد تم حشر اسمي حشرا في القضية ضمن قوائم المتهمين دون أي دليل أو إشارة من دليل على سبب للاتهام فضلا عن الإدانة، ويبدو واضحا أن النيابة أدركت أنه ليس لديها ما تحقق معي بشأنه أو تواجهني به، فآثرت إحالتي للمحاكمة دون تحقيق، فما السر في ذلك؟
ذلك هو موضوع النقطة الثالثة والأخيرة في هذه الكلمة المختصرة، وأقدم بين يدي هذا السر بحقيقتين ضروريتين:
الحقيقة الأولى: أنني بعد أن منّ الله عليّ بإتمام حفظ القرآن في الثامنة من عمري توجهت قبل بلوغ العاشرة إلى الأزهر الشريف كعبة العلم وقبلة الوسطية والاعتدال، فنهلت من علوم الشريعة ما شاء الله صفوا عفوا يسرا وسطا، لا عكر فيه ولا كدر ولا شطط ولا غلو ولا جفاء، حتى حصلت بتوفيق الله في علوم الشريعة على أعلى الدرجات العلمية، وتبوأت أرفع المراتب في أسمى المناصب التعليمية وكان مما أخذ الله من الميثاق عليّ وعلى أمثالي من أهل العلم ألا نقول إلا الحق “ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه”، وألا أتأخر عن البيان “وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه…”، وحذرنا أبلغ التحذير وتوعدنا بأشد الوعيد إذا قصرنا أو كتمنا، فقال “إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار”، وفي الآية الأخرى يقول عن الكاتمين “أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون”، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة”.
والحقيقة الثانية: أنني فتنت بحب هذا الوطن العظيم مصر التي “أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى~ فصادق قلبا خاليا فتمكنا”، وبلغت فتنتي أوجها حين انبعثت في 25 يناير 2011 م الثورة الوطنية العظيمة التي حطمت أغلال القهر والاستبداد، وأنعشت الآمال في تحقيق الحلم الذي راود جموع المحبين لهذا الوطن في رؤيته حرا مستقلا ناهضا يأخذ مكانه الطبيعي في مقدمة الأمم في صناعة التقدم والحضارة التي بزغ فجرها في ربوعه قبل آلاف السنين وخرج الشعب العظيم لأول مرة في تاريخه ليختار بحرية تامة برلمان الأمة ورئيسها وليوافق على دستور ثورته المجيدة الذي عكس رغبة الشعب في الحرية والعيش مرفوع الرأس موفور الكرامة وفجأة ثارت موجة ارتدادية عاصفة للثورة المضادة، بلغت ذروتها في 3 / 7 / 2013 بالإعلان عن تعطيل دستور الثورة وإلغاء المؤسسات المنتخبة واختطاف الرئيس المنتخب ومصادرة الحلم الوليد وملاحقة رموز الثورة وشطب كافة منجزاتها، لتعود الأمة القهقرى إلى العيش في ظل القهر والخوف والاستبداد ومحاربة الرأي والفكر وإسكات أصوات الناصحين المخلصين وقمع الحريات وتقزيم الوطن العملاق.
إزاء ذلك، ولما كنت بفضل الله لست ممن ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا، فإنني لم أستطع أن أبلع لساني وأضيع الميثاق الذي واثقني به ربي، وأن أقمع ضميري وأخون الوطن العزيز الساكن في سويداء قلبي، وهزني من الأعماق هاتف مزلزل يصيح بي: يا حافظ القرآن ما أنت فاعل بقول الله تعالى: “ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون”، يا مُعلم السُنة ما تصنع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا يحقر أحدكم نفسه، قالوا! وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقوله، فيقول الله له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في ّ؟ فيقول: يا رب خشية الناس”.
هذا كله وغيره من التنكيل ليس له إلا هدف واضح هو إرغامي على التخلي عن حريتي وبيع ديني وتضييع الميثاق الذي واثقني به، وإكراهي على خيانة هذا الوطن الحبيب، وهو ما لا يمكنني أن أقبل به على الإطلاق، خصوصا بعد أن آذنت شمس عمري بالغروب، وأوشكت أن يدعوني رسول الله فأجيب اللقاء به ولو فعلت لكنت كمن صام يوما شديد الحر، ثم أفطر قبيل الغروب وقبيل موعد الإفطار، فحبط عمله وكان من الخاسرين، وأغبى الأغبياء من ضل في آخر الطريق بعد أن قارب المنزل.
ولي رب لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يغفل عما يفعل الظالمون هو حسبي ونعم الوكيل، والأمر في يد معاليكم لتقرر فيه ضمائركم وجه الحق إن شاء الله.
واسمحوا لي أن أختم هذه الكلمة بما ختم الله بوحي من السماء حيث أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم قبل وفاته ببضع ليالي أخر آية من القران الكريم وهي قوله: “واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون”، وعلى الله قصد السبيل.