من قال لا في دعم من أرادوا نعم

- ‎فيمقالات

ليست مشاهد الرقص بالكرتونة هي ذروة المأساة، أو الملهاة، في عبث الاستفتاء على التعديلات الدستورية، بل اللقطة الأكثر إثارة، والأعمق دراميًا، هي صورة ذلك الشخص الذي ترأس قبل خمس سنوات لجنة لوضع دستور، وصفه بأنه مفخرة الدساتير، وهدية للأجيال القادمة في مصر، ثم بعد أن أنهى مهمته، أنشأ جمعية أطلق عليها”جمعية حماية الدستور أو الدفاع عن الدستور” ثم انتهى به الحال يقف، منحنيًا، أمام صندوق اقتراع، مشاركًا في وليمة أعدها عبد الفتاح السيسي لالتهام هذا الدستور(المفخرة).

هذا الشخص هو عمرو موسى، الذراع الدبلوماسي الأبرز، في دعم انقلاب السيسي، والرجل ذو القشرة الليبرالية الزائفة، الذي أنهى مسيرته محاربًا من أجل تكريس النظام العسكري. على أن عمرو موسى ليس وحده الذي ذهب صاغرًا كي يشارك في حفل عسكرة الدستور، أو دسترة العسكرة.

أنت، مثله، ذهبت إلى استفتاءٍ بنكهة المسخرة، وأقررْت قبلًا بأن السيسي سوف يعلن ما يشاء من نتائج وأرقام، وتعلم أن مشاركتك أو مقاطعتك لن تغير من الأمر شيئًا، وأن الحياة السياسية في مصر منعدمة، فلا انتخاب ولا استفتاء.

وأنا قلت إن السيسي أحرص من الجميع على إظهار نسبةٍ لافتةٍ للمصوتين ضد تعديلاته الفضائحية على دستور انقلابه، ذلك أنه يتوجه، بخطابه وأرقامه دائمًا، إلى الخارج، ليقول إنه أجرى عملية اقتراع حقيقية، عبرت فيها المعارضة عن مواقفها أمام الصندوق، وأخذت فرصتها كاملة في الحشد والتصويت.

كان لافتًا أن مشاهير رموز المعارضة، من داخل نظام 30 يونيو، ظهرت بلقطاتٍ في ساعات مبكرة من عمر مسرحية الاستفتاء، تحتفل بالحبر الفوشيا على أصابعها، وتقول للناس هيا تفضلوا معنا فقد قلنا “لا” والتقطنا صورنا أثناء الاقتراع واختيار “لا”.

حسنًا، أنت أسبغت مسحة من الدراما على مسخرة عبثية، في أثناء الاقتراع، وها أنت تحتفل بالأرقام التي تفضل عليك السيسي بإعلانها: ما يقرب من ثلاثة ملايين صوتوا “لا” نحن كثير .. نحن موجودون ومؤثرون.

نعم، كنتم موجودين، بكثرة، أسعدت السيسي، وبما يكفي لطلاء وجه النظام بمساحيق تتيح له الوقوف أمام سائليه الدوليين، ليقول لهم لقد قمت بعمل عظيم، كما وصفني دونالد ترامب، وأدرت عملية سياسية، أفرزت أرقامًا منحت المعارضة شعورًا بالسعادة والارتياح والإحساس بالوجود والقوة.

وما دمت قد أقررت سابقًا بأن السيسي يستطيع أن يختار ما يشاء من أرقامٍ لإعلانها، فإنك يجب أن تعترف بأن نسبة “لا” المعلنة هي منحة من السيسي، كان بإمكانه أن يزيدها أو ينقصها كما يشاء.

وما دمت راضيًا وفخورًا بنسبة 11% رفضًا، لا ينبغي، والحال كذلك، أن تنكر نسبة 88% موافقة، ولا أن تشكك في المعلن عن كثافة الحضور، غير المسبوقة، فقد تمت العملية بنجاح، وقد شاهدك العالم تقترع، ثم تبث لقطات درامية مؤثرة، وأنت تؤشر بعلامة “لا” على الرحب والسعة، وبمنتهى الشفافية.

إذن، لا جديد، هذه المرة أيضًا، القشرة المدنية لانقلاب السيسي هي ذاتها القشرة التي أضفت على استفتائه العبثي لتعديل دستوره جدية مصطنعة، وأدت دورها في تحويل المسخرة إلى معركة.

هو ذاته السيناريو الذي تم مع ترشح حمدين صباحي أمام السيسي في 2014 يتكرّر، وهو السيناريو الذي عبر عنه أحد مساعدي حمدين بالقول إنه كان لابد من الترشح، على الرغم من التأكد بأنه لا توجد منافسة “من غير اللائق أمام العالم أن نظهر وكأن انتخابات مصر عملية ورقية، وتشكك في شرعية الرئيس السيسي”.

وإجمالًا، وحتى لو تجاوزت نسبة “لا” 90% من الأصوات، يبقي السيرك سيركا، ويظل المهرّجون مهرجين، لا فرق بين من يرتدي البدلة ورابطة العنق ومن يلبس الجينز البطيخي، ذلك أن ممارسة الفعل غير القانوني، وغير الأخلاقي، بالإجماع، أو بالأغلبية المطلقة، لا يجعل منه فعلًا أخلاقيًا ومحترمًا وقانونيًا.. قد يكون مؤسسًا لواقع مادي ظالم، لكنه لا يصلح أبدًا لبناء شرعية أخلاقية.

إنه المنطق الانتهازي التجاري ذاته يتكرّر، بصرف النظر عن معقولية الرقم وصدقيته: قالوا إن 33 مليون شخص تم حشدهم للخروج في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 ضد الرئيس محمد مرسي.. إذن فهي ثورة! هكذا يردّد كثيرون ممن كانوا سباقين في اعتناق مبدأ الكرتونة مبكرًا، فضحّوا بالمعنى الأخلاقي والمبدأ السياسي والقيمة الثورية، ليحصلوا على كرتونة المناصب، وكوبونات الانتقام الشرير من فصيلٍ سياسي أخطأ، لكنه لم يجرم.

انفض المولد والجميع في حبور، وتحت “شجرة لا” وقف المهرجون والتجار يلتقطون ما يتساقط من ثمار معطوبة، تكفي لملء أرفف بوتيك جديد، يبيع كل ما تبقى من معانٍ وقيم، ويحتفل على موسيقى صاخبة بالإسقاط الثالث للرئيس الأسير المنتخب، ويتلقى الثمن، تحت لافتة “هنا تباع منتجات معارضة كارتونية لنظام كرتوني”.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها