تقرير من تركيا

- ‎فيمقالات

 

بقلم: فهمي هويدي

 

لا يسرنا استمرار توتر العلاقات بين مصر وتركيا، وربما كان الوقت مناسبا الآن لفتح الملف وإعادة النظر فى حساباته وعناوينه.

 

(١)
أجواء إسطنبول فى عام ٢٠١٦ تذكرنا بمصر الستينيات، التى صورها الصحفى الفرنسى إريك رولو فى كتابه عن كواليس الشرق الأوسط الذى ترجم إلى العربية حديثا. ذلك أنه كان مفتونا بكم اللاجئين السياسيين العرب الذين وجدوا فى القاهرة آنذاك ملاذا لهم.

 

وحين شارك فى مجالسهم وأحاديثهم الليلية فإن ذلك مكنه من التعرف على صورة حية ومفصلة لواقع العالم العربى من خلال استماعه إلى أحدث أخباره وأسراره. الظاهرة ذاتها يلاحظها زائر إسطنبول هذه الأيام، إذ يجدها تعج باللاجئين السياسيين القادمين من مختلف أنحاء العالم العربى، مضافا إليهم آخرون من دول آسيا الوسطى التى تتحدث اللهجات التركية، وصولا إلى الويغور سكان تركستان الشرقية التى ضمتها الصين فى خمسينيات القرن الماضى وغيرت اسمها إلى مقاطعة سينكيانج. هؤلاء يصادفهم الزائر ويرى وجوههم فى كل مناسبة عامة. فضلا عن الفنادق والمقاهى والمطاعم والأسواق.

 

حضرت فى إسطنبول مؤتمرا لمنتدى فلسطين الدولى للإعلام والاتصال الذى وجد منظموه أن تركيا أكثر أقطار المنطقة ترحيبا به، ووجدت أن مسئول الاستقبال وكذلك صاحب شركة سيارات الانتقال مصريان، والسائق الذى رافقنى كان سوريا، والمنظمون كانوا شبابا من فلسطين. وفى الفندق صادفت سياسيين ليبيين ويمنيين وجزائريين وسوريين وتوانسة وعراقيين وخليجيين، واكتشفت أفغانيا جاء ليتاجر فى العقارات بعدما سمع عن النهضة العمرانية فى المدينة.

 

صخب المؤتمر كان قطرة فى بحر الضجيج الذى لا تهدأ وتيرته فى إسطنبول على مدى اليوم. ليس فقط لأن سكانها المقيمين ١٦ مليونا، ولكن لأن المدينة مترامية الأطراف تتحول إلى خلية نحل يتحرك فيها الجميع ويركضون طول النهار، التجار والصناع والسياح والمتظاهرون والدراويش وباعة السميط والزهور وأوراق اليانصيب. وإذ يكاد المرء يصاب بالدوار وهو يرقب تلك الحيوية الطاغية، فإنه يجد فيما يراه مصداقا لما ذكره مكتب الإحصاء الأوروبى ومؤسسة الإحصاء التركية من أن تركيا أحرزت المركز الأول فى أوروبا فى النمو الاقتصادى خلال الربع الأول من العام الحالى، بتحقيقها نموا بلغت نسبته ٤.٨٪. وبذلك تقدمت على السويد ورومانيا ــ أكبر منافسيها ــ إذ حقق كل منهما نموا بنسبة ٤.٢٪. علما بأن معدلات النمو فى الاتحاد الأوروبى (٢٨ دولة) ومنطقة اليورو (١٩ دولة) بلغت على التوالى ١.٨٪ و١.٧٪ فى الفترة ذاتها.

 

(٢)
تركيا فى الاقتصاد غيرها فى السياسة والإعلام. والوجه الأول يدركه الأتراك جيدا، لكن الوجه الثانى هو الذى تراه الأغلبية فى الخارج. والطفرة الاقتصادية الكبيرة التى تحققت فى ظل حكومة حزب العدالة والتنمية التى تدير البلاد منذ عام ٢٠٠٢ تمثل الرصيد القوى الذى تستند إليه شعبية الحزب وقيادته المتمثلة فى الرئيس رجب طيب أردوغان. ذلك أنها أدت إلى مضاعفة الدخول مرتين خلال ١٠ أعوام، بحيث أصبح متوسط دخل الفرد ١٧ ألفا و٥٠٠ دولار فى العام. وبمقتضاه أصبحت تركيا بين الدول العشر التى شهدت ثورة صناعية. كما صنفت ٤ من مدنها ضمن العشر الأسرع تطورا فى العالم (المدن هى إسطنبول وبورصة وأزمير وأنقرة ــ وحسب تقرير معهد بروكينجز فى واشنطن الذى أجرى الدراسة فإن إسطنبول صنفت فى المرتبة الثالثة فى حين احتلت المرتبة الـ٥٢ فى تقرير المعهد عن عام ٢٠١٣).

 

يشهد الزائر مظاهر تلك الطفرة فى مختلف مظاهر العمران والحياة بالمدن التركية. التى تتغير معالمها عاما بعد عام. أما مدينة إسطنبول التى أعرفها أكثر من غيرها فيتغير وجهها أكثر من مرة خلال العام، بحيث تزداد فتنة وابداعا، رغم حدة الصراعات وشدة التجاذب على أرضها بين القوى السياسية المختلفة.

 

الصعود المشهود فى مؤشرات الاقتصاد يتفوق على مؤشرات السياسة. ذلك أن الصراع المحتدم بين مكونات الطبقة السياسية الحاصل فى البرلمان، والذى تعبر عنه وسائل الإعلام وقنوات التليفزيون، أصبح يواجه بدرجات مختلفة من التشدد من جانب السلطة، التى أصبح يضيق صدرها بالنقد خلال السنوات الأخيرة. ذلك راجع لحد كبير إلى ثقة متزايدة ونزوع من جانب أردوغان الرجل القوى فى السلطة منذ عام ٢٠٠٤. إذ عين رئيسا للوزراء آنذاك واستمر حتى عام ٢٠١٤. ثم انتخب رئيسا للجمهورية فى ذلك العام، وهو يعمل الآن جاهدا للجمع بين المنصبين عبر محاولته تعديل الدستور والانتقال إلى النظام الرئاسى. ذلك أن النجاحات التى حققها خلال تلك الفترة الطويلة نسبيا رفعت منسوب طموحاته بقدر ما جعلته أكثر حساسية إزاء معارضيه. وهؤلاء ضاقوا باستمراره والتأييد الشعبى له، حتى أصبح هجومهم عليه أكثر شراسة فى البرلمان والإعلام. وهى المجالات التى مازالت مفتوحة أمامهم ويتحصنون بها. خصوصا أن التأييد الشعبى لهم متواضع بالمقارنة مع حزب العدالة والتنمية. والأخير فاز بنسبة ٤١٪ من الأصوات فى انتخابات عام ٢٠١٥ فى حين فاز منافسوه بنسب أقل من ذلك بكثير. حزب الشعب الجمهورى العلمانى واليسارى حصل على ٢٥٪ فقط. أما حزب الحركة القومية اليمينى فشعبيته لم تتجاوز ١٧٪ وحزب الشعوب الديمقراطى الذى يمثل الأكراد فاز بـ١٣.٥٪.

 

رغم الضعف النسبى للأحزاب المعارضة فإنها موجودة وعالية الصوت. والصحف التى تعبر عنها، جمهوريت وايدينليك وافرنسيل وسوذجو وبيرجين وغيرها، تقيم له محاكم علنية ويومية له، ويصل بها الأمر أحيانا إلى حد التطاول عليه وتجريحه، الأمر الذى يدفعه إلى مقاضاة بعض الدور الصحفية والكتاب، وهى الإجراءات التى تندد بها صحف الديمقراطيات الغربية لأسباب مبررة ومفهومة، ومن المفارقات أن بعض الصحف العربية تستخدم تلك الانتقادات فى التنديد بشخص أردوغان ونظامه فى إطار الصراع السياسى معه. ناسية أن الهامش الديمقراطى فى تركيا يتجاوز بكثير ما هو متاح فى كل العالم العربى، باستثناء لبنان.

 

(٣)
هذه المرة لاحظت أن حالة الاسترخاء السياسى اختلفت فى تركيا. إذ لمست تعاطفا مع رئيس الوزراء السابق الدكتور أحمد داود أوغلو، الذى استقال من منصبه بسبب تفاقم خلافاته مع الرئيس أردوغان. وقيل لى إن استقلال وقوة شخصية الرجل كانت سببا لاحتكاكات ناعمة بينهما، وحين تبين أنه ليس ممكنا استمرار تسيير السفينة بقائدين، كان طبيعيا أن يغادر رئيس الوزراء وليس رئيس الجمهورية، إلا أن التعاطف مع أحمد داود أوغلو (الذى قيل لى إنه عاكف على إصدار ستة كتب كانت مؤجلة له) لم يؤثر على الترحيب برئيس الوزراء الجديد بن على يلدريم. فالأول رجل تفكير استراتيجى مستقل، والثانى رجل أردوغان وعقله التنفيذى منذ كان عمدة لإسطنبول فى عام ١٩٩٤. وجهده مشهود فى إعمار تركيا من أقصاها إلى أقصاها. وقد اختاره أردوغان للعمل بجانبه باعتباره رجل المهمات الخاصة. حتى ظل يوصف طول الوقت بأنه كان يدير «حكومة الظل»، التى ضمت ١٣ مستشارا كان لهم دورهم فى رسم سياسة تركيا فى الداخل والخارج.

 

فى الوضع المستجد، أصبحت تركيبة رأس السلطة أكثر توافقا وانسجاما، وحسب جريدة «حريت» فإن أمام السيد يلدريم سبعة ملفات كانت عناوينها موضوعا للاختلاف فى الرأى بين أردوغان ورئيس الوزراء السابق. هذه الملفات هى: الحرب على الإرهاب الذى يعنى هناك التعامل مع حزب العمال الكردستانى (الأكراد يمثلون ١٦٪ من السكان). وثمة إشارة إلى أن يلدريم الذى يحتفظ بعلاقات جيدة مع الجيش ورئاسة الأركان قد يسعى للعودة إلى طرق باب الحل السلمى الذى يوقف العنف والاقتتال ــ الملف الاقتصادى الذى يعد إنعاشه والحفاظ على معدلات نموه مهمة أساسية للحكومة ــ الدستور الجديد الذى يتطلع أردوغان إلى تعديله للانتقال من النظام البرلمانى إلى الرئاسى ــ تعيين حكام المدن ومديرى الأمن الذى أطلق رئيس الوزراء السابق يده فيه دون الرجوع إلى القصر الجمهورى، الأمر الذى أثار استياء أردوغان ودفعه إلى رفض التوقيع على تلك التعيينات ــ الملف الخامس يخص الانفتاح على العلويين (يمثلون ما بين ١٦ و٢٠٪ من السكان) ومعهم الأقليات المسلمة من غير أهل السنة وأبرزهم البكتاشيون، وهؤلاء لهم مشكلاتهم المعلقة منذ عدة سنوات. الملف السادس يتعلق بالعلاقات مع الاتحاد الأوروبى التى ساءت فى الفترة الأخيرة ــ الملف السابع محوره العلاقات الخارجية التى ستترك للرئيس أردوغان.

 

(٤)
الشأن الداخلى يهمنا لأن بلدا بأهمية ووزن وقوة تركيا لا نستطيع أن ندير الظهر له أو نشطبه من المعادلة فى أى تفكير رشيد وليس بالضرورة تفكيرا استراتيجيا. وإذا كان الدكتور جمال حمدان قد تحدث عن تركيا ومصر وإيران باعتبارها تشكل أضلاع المثلث الذهبى الذى يمكن أن يقود نهضة المنطقة، فربما احتجنا إلى من يرصد الخسائر التى لحقت بالمنطقة جراء انهيار جسور التعاون بين الدول الثلاث. وإلى جانب ذلك فإننا نشهد بأعيننا كيف انطلقت إيران وتمددت فى ظل الخصومة بين القاهرة وأنقرة التى أدت إلى انهيار المعسكر السنى، وكيف حلت الحروب الطائفية محل التعاون الاستراتيجى، وكيف استفادت إسرائيل من كل ذلك وخسر المسلمون السنة والشيعة.

 

لدى ملاحظتان أخيرتان فى هذه القراءة هما:
إن العلاقات المصرية التركية التى تدهورت سياسيا وجمدت اقتصاديا خيم عليها الانفعال على الجانبين على نحو محزن، إذ صرنا بإزاء علاقات دافئة مع إسرائيل وباردة ومعقدة مع أنقرة، وصارت إسرائيل تغازل مصر وتركيا وتلاعبهما. وأفهم أن للانفعال أسبابه، فتركيا تدخلت فى الشأن المصرى بأكثر مما ينبغى. ومصر رهنت العلاقة مع تركيا على موقفها من الإخوان وردت على أنقرة بإجراءات ذهبت فيها أبعد مما ينبغى على الصعيدين السياسى والإعلامى.

 

الملاحظة الثانية أننى ألمح فى الأفق التركى إشارات موحية بأن خطوط السياسة الخارجية محل مراجعة وإعادة نظر. فثمة تهدئة فى تصريحات الرئيس أردوغان تجاه مصر، خصوصا أن أنقرة استشعرت أن وجود الإخوان وحلفائهم فى تركيا بقنواتهم التليفزيونية حملها بأعباء أثقلت كاهلها، كما أن الخلافات الحاصلة بينهم سببت صداعا للسلطات المختصة. وغاية ما يمكن أن يقال فى هذا الصدد أن الملف مفتوح الآن ويدرس من جوانبه المختلفة. فى الوقت ذاته تسربت أنباء عن التمهيد لنقل زعيم حزب العمال الكردستانى عبدالله أوجلان من سجنه الانفرادى فى جزيرة أمرالى ببحر مرمرة إلى الإقامة الجبرية فى مكان آخر، لتسهيل التواصل معه لتهدئة الأوضاع مع حزب العمال الذى يخوض حربا ضد الجيش التركى. من ناحية ثالثة نشرت صحيفة «ينى شفق» فى عدد ٢/٦ مقالة لكاتبها عاكف أمره المقرب من الحزب الحاكم أشار فيه إلى أخبار تحدثت عن لقاء سرى تم فى الجزائر بين مسئولين أتراك وموفد من الرئيس بشار الأسد، وعن إرسال نظام الأسد شخصا تعرفه أنقرة للوساطة بين البلدين. وذكر الكاتب أن التطورات الحاصلة فى المنطقة استدعت تحريك ذلك الملف بعدما صارت الأمور تهدد وحدة سوريا وأمن تركيا (يقصد سعى الأكراد السوريين لإقامة كيان لهم على الحدود بين البلدين).

 

هذه الإشارات تحتاج إلى تمحيص وتحقيق، ومن المهم تسلمها، الأمر الذى يثير تساؤلا مشروعا عن موقف القاهرة وخطواتها المقبلة. وهو ما أستطيع أن أسأل عنه لكنى لا أملك إجابة عليه.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها