مستقبل الديكتاتورية

- ‎فيمقالات

الباحثون والكُتَّاب حول العالم على رأيين فيما يخص (مستقبل الديكتاتورية)؛ يرى الفريق الأول أنها فى تزايد وقد تمددت وطالت بلدانًا ذات تاريخ فى الديمقراطية. أما الفريق الآخر فيرى ألا مستقبل لها بعد تراجع الحروب التى يتخذها المستبدون ذريعة لاستبدادهم، فضلًا عن ثورة الاتصالات التى غطت أرجاء المعمورة ونسفت الإعلام الأوحد، إضافة إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى تتراكم جرّاء ممارسات الطغاة وتشكل تهديدًا مباشرًا لأنظمتهم.

وفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة «بيرتلسمان» الألمانية وأعدها باحثون على مدى عامين ونُشرت نتائجها يوم (22 مارس 2018) قاموا خلالها بدراسة أوضاع (129) دولة من الدول الصاعدة والنامية -فإن نحو (3,3 مليار إنسان) يعيشون فى أنظمة مستبدة (مقارنة بـ2,3 مليار إنسان عام 2003)، وأوردت الدراسة أن (40) دولة، من بينها دول قطعت أشواطًا بعيدة فى الديمقراطية قلَّصت فى العامين الماضيين (2016، 2017) مظاهر دولة القانون، وهناك (50) دولة تم فيها تقليص الحقوق السياسية. وصنفت الدراسة (58) دولة كدول ديكتاتورية، و(71) دولة كدول ديمقراطية.

وحسب تقرير آخر لمؤسسة «فريدوم هاوس» الأمريكية المعنية بأوضاع الحريات فى العالم، صدر عام (2018) أيضًا؛ فإن الأوضاع تتدهور بوتيرة متسارعة مقارنة بالسنوات السابقة، وأشار التقرير إلى أن 71 بلدًا شهد تراجعًا فى أوضاع الحقوق السياسية والمدنية بينما تحسنت فقط فى 35 دولة.

أما التوقعات الأكثر تشاؤمًا لهذا الفريق فهى أن دول العالم -جميعًا- ستمرُّ بحالة من الكساد والفوضى التى ظهرت إرهاصاتها الآن، وأن ذلك سيكون مقدمة لثورات شعبية يستتبعها استيلاء الأنظمة المستبدة على مقاليد الحكم بدعوى كبح الاضطرابات ودعم الاستقرار والحفاظ على مقدرات الأمن القومى. وأن أنظمة شعبوية فى الطريق لإدارة شئون بلاد عريقة فى حقوق الإنسان بدعاوى وأوهام لا تختلف عن دعاوى العسكر فى البلاد المتخلفة.

ويخالف الفريق الثانى هذه الآراء والدراسات التشاؤمية داعمًا وجهة نظره بالسياق التاريخى وبالتطور الحضارى الذى تشهده البشرية الآن، والذى أعطى دورًا أكبر لما يُعرف بـ« المواطن السياسى»، ويسوقون لذلك أمثلة منها ما جرى من تفكيك لكثير من هذه الأنظمة الديكتاتورية فترة السبعينيات، فى أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية، والانهيار السريع للاتحاد السوفييتى فى مطلع التسعينييات وما صحبه من تراجع ملحوظ فى عدد وتأثير هذه الأنظمة.

ويؤكد هذا الفريق أن الشعوب فى العالم «النامى» لم تعد مقتنعة بتلك الأنظمة التى صدَّرت لها الأوهام وتمتعت بسلطات لا حدود لها تركزت فى أيدى فئة محدودة من أصحاب المصالح الخاصة من ذوى السلوك الأخرق، وقد راكمت الكوارث كما راكمت الديون. وحتى فى البلاد المتقدمة التى شهدت تراجعًا ديمقراطيًّا بعد صعود التيارات الشعبوية؛ فإن الشعوب سرعان ما لفظتها، مثلما حدث مع «ترامب» وفى بعض الأنظمة الأوربية.

وإذا كان الفريق الأول يسوق أمثلة لأنظمة قمعية هى فى الوقت ذاته ذات قدم راسخ فى التطور والتنمية كالصين مثلًا -فيرد الفريق الثانى بالقول إن ذلك التطور والاستقرار يكون على المدى القصير، وما جرى للاتحاد السوفييتى سيجرى على الصين، وهى الديكتاتورية الأسوأ على مستوى العالم الآن، فهذا التطور على حساب حقوق الإنسان، وتبدو فيه الصورة الحسنة وتُخفَى فيه الصور السيئة بأيدى الدولة البوليسية؛ لذا سيكون انهيار الصين، التى تعانى من نمط ديمجرافى معقد، سريعًا ومدمرًا ليس لها فقط بل لكل العالم؛ لما تستوعبه من عدد سكانى يقترب من ربع سكان المعمورة.

كذلك الأمر فى أنظمتنا العربية؛ فإن ثورات الربيع العربى خلقت مواطنًا آخر صار رقمًا جديدًا فى المعادلة السياسية كانت الأنظمة السابقة تحكم السيطرة عليه. هناك حالة من الوعى على امتداد الرقعة الجغرافية لبلاد العرب، ترافقها حالة من الأمل فى التغيير الكبير والسريع، بخلاف الحقب السابقة حيث انعدم هذا الوعى وذلك الأمل. ومن الصعب على تلك الأنظمة أن تحافظ طويلًا على حكوماتها، فى ظل معارضة قوية فى الداخل والخارج، وفى ظل فشل كُتب عليها لا يمكنها إنكاره أو التغطية عليه؛ إذ باتت تقترض بغباء، وتطبع البنكنوت بغباء أيضًا وبلا أى غطاء، والأغبى أنها تزيد فى قمعها وليس أمامها خيار سواه، فباتت الشعوب ككقنبلة موقوتة، من المحيط إلى الخليج، تحت وطأة الظلم الاجتماعى والتفاوت الطبقى والفساد والفقر والبطالة والتزايد السكانى وندرة الإنتاج إلخ.

وإذا كانت بعض الديكتاتوريات العربية محظوظة بدعم دولى وصهيونى وبقاؤها يمثل فرصًا للكيان الغاصب ولمصالح الدول الكبرى؛ فإن الواقع يؤكد أن الأمور متجهة نحو الأحسن ومن الصعب تراجع العجلة للوراء وانفراد هذه الأنظمة بالحكم سنين طويلة كالسابق؛ للأسباب التى ذُكرت سابقًا ولأن العالم يتغير من حولنا، وهناك قوى جديدة حريصة على التخلص من هؤلاء المستبدين كما هى حريصة على تحرير عالمنا

العربى من تلك التبعية المقيتة التى لازمته لعقود.