محمد ثابت توفيق يكتب: لماذا لم يخلق الله الراحة الدائمة لأحد في الدنيا؟!

- ‎فيمقالات

بحث وما يزال آلاف الملايين من البشر منذ بداية الخليقة ودبيب البشرية فوق سطح الأرض في الحياة الدنيا عن الراحة الدائمة والسعادة المستقرة، بل النعيم المقيم والهناء المستمر الذي لا يشوبه ألم ولا ينغصه كدر من افتقار، أو مرض، أو مجرد اعتلال صحة عابر، أو تقلب أحوال، وربما مفاجأة غير سارة تقلب موازين حساباته الدقيقة فتنهار بها منظومة الخلد والاستقرار التي رتب لها لسنوات طويلة سواء عبر خلاف بسيط أو عارم أو ألم مقيم أو زائر، ومشكلة متأزمة أم سهلة يسيرة الحل، أو تصرف لم تكن في حسبانه فتخلق أجواء متوترة لفترة زمنية تمضي أو تقيم وتنهكه؛ فإذا سلم الزائر لهذه الأرض وتلك الحياة من كل ذلك -ومن ذا الذي يسلم أو تعفيه الدنيا من منغصاتها؟!- فوجئ بغياب حبيب لم يكن ليظن أن يبتعد عن ناظريه بل لطالما تأمل وتمنى وحلم ألَّا يتركه أبد الدهر ولم يطق من قبل مجرد تخيل غيابه لساعات، فما باله باختفاء أبٍّ عنه اختفاءً يدوم ما دامت روحه في جسده الفاني في هذا الوجود؟! وهكذا قد تختفي الأم الحنون الرؤوم، أو الزوجة المخلصة، أو الابن الأثير الذي يمثل جانب القلب وفلذة الكبد وأحد أهم المصبرات على الحياة الأولى.          

باختصار، يحلم الجميع -إلا من رحم الله تعالى- بالراحة الأزلية في هذا الوجود الضيق المحدود الذي يمثل حياته، رغم حديث العلماء عن سنوات غير محسوبة قبل وجود الإنسان وخلق سيدنا آدم، ثم آلاف أخرى حتى ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام، وأكثر من ألفيّ عام بعد ذلك؛ فما نفع أحدنا من هذه السنوات البالغة الطول والاتساع سوى بعمر وأفق زمني محدودين بعدة عقود أو عشرات من السنوات تمثل وجوده الخاص في الدنيا؟ ورغم ذلك كله صدق صاحب السيف والقلم الشاعر الراحل محمود سامي البارودي لما قال:

يَوَدُّ الْفَتَى أَنْ يَجْمَعَ الأَرْضَ كُلَّهَا!          إِلَيْهِ وَلَمَّا يِدْرِ مَا اللهُ صَانِع

ومن قبل حكم رب العزة فصدق لما قدر وأراد الخير لنا جميعًا لكن عقولنا القاصرة لا تصل إلى مراده سبحانه؛ ففي محكم التنزيل: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد: 4)؛ أي أن الله خلقنا جميعًا بمريضنا وصحيحنا، وأبيضنا وأسودنا، وقوينا وضعيفنا في المركز والسلطة والمكانة الاجتماعية؛ وغنينا وفقيرنا ومعدمنا، نحن جميعًا خلقنا الله سبحانه في تعب وعناء ومشقة فذهب بعض السادة المفسرين للآية الكريمة إلى أن تلك المشقة والجهد والآلام لا يغادروننا ولا يزولون عن حياتنا إلا بدخولنا الجنة بإذن الله تعالى.           

والأمر الذي لا يتفهمه العقل باستمرار بل يتناساه على الدوام وترفضه وتتأباه المشاعر هو أننا ضيوف على هذه "البسيطة" وهذا الكون الصغير المحدود في ملك وملكوت الله؛ ومدة ضيافتنا هذه قصيرة قليلة في عمر الكون المحدود من الأساس حتى إنه روى القرآن الكريم أن سيدنا نوح عليه السلام لبث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين، فما بالنا بأعمارنا؟ وورد في الأثر أنه لما علم الأخير بمدة حياة أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التي هي بحسب قول الرسول العظيم: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك" (رواه الترمذي)؛ فقال سيدنا نوح: إن أعمارنا بمنزلة دخول أحدنا من باب وخروجه من الآخر!

وأمر ضيافتنا فوق الأرض ووجودنا في الحياة الدنيا مجرد طيف خيال طارئ بعدها نغادرها في موعد مضروب مذ كنا في علم الغيب، وما حياتنا -وإن طالت أو قصرت- إلا بمنزلة دقائق قليلة وثوانٍ، وفي الحديث الذي رواه حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام على حصير، فقام وقد أثَّر في جَنْبه، فقلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وِطاء (فراشًا)، فقال: "مالي وما للدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها" (رواه الترمذي وابن ماجة).                                        

فإذا كان أحب الخلق إلى البارئ المصور سبحانه، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد زهد في الدنيا على هذا النحو والمثال العجيبين، فما بال أحدنا وهو يريد أن يحوز ويجمع الدنيا وسعادتها وهناءتها من جميع أطرافها؟!

ويبقى أننا هنا في دار انتقال لا قرار، وفي دار امتحان وابتلاء لا هناء وسعادة واستقرار؛ ومن العسير على الطالب الذي يذهب إلى لجنة الاختبار فيجلس محصورة حركته في مكان محدود -ولو اتسع بعض الشيء- فمن العسير بل المستحيل أن يظن الطالب الممتحن أن اللجنة هي مستقر حياته ومصدر عمله وشغله وهناءاته الدائمة؛ ومن هذا الفهم المغلوط المعوج الذي انتشر حتى بين المسلمين جاء التمسك أكثر بالدنيا في أيامنا وزماننا، رغم أن الحياة نفسها لم تصف وتهنأ أحداثها لأحد من قبل أو ستصفو لأحد من بعدنا مهما كان وارتقى ووصل ونال منها أوفيها ورحم الله الأديب عباس محمود العقاد إذ يقول:

صغير يشتهي الكبرا.. وشيخ ود لو صغرا

ورب المال في كدر.. وفي تعب من افتقرا

وخال يبتغي عملاً.. وذو عمل به ضــجرا

ويشقى المرء منهزماً.. ولا يرتاح منتصرا

وذو الأولاد مهموم.. وطالبهم قد انفـــطرا

ومن فقد الجمال شكا.. وقد يشكو الذي بهرا

ويشقى المرء منهزماً.. ولا يرتاح منتصـرا

ويبغي المجد في لهف.. فإن يظفر به فـــترا

شكاة مالها حكم.. سوي الخصمين إن حضرا

فهل حاروا مع الأقدار.. أم هم حيروا القدرا!

وهبنا الله جميعًا تذكر أن هذه الدنيا التي تبدو لأعيننا كثيرًا حلوة خضرة كما ورد في الحديث الشريف: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا.." (رواه مسلم)، فهذه الدنيا ليست إلا متاعاً زائلاً وممراً واهياً؛ البقاء الحقيقي لدى رب العزة الذي أخبرنا بوضوح: (وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران: 185)، ووفقنا تعالى إلى العمل الصالح الذي يخلدنا جميعًا في جناته سبحانه وتعالى حيث الراحة والنعيم الدائمين المقيمين!