خلال تفقده المجرى الملاحي لقناة السويس الثلاثاء 30 مارس 2021م، في أعقاب تعطله لأسبوع كامل بعد جنوح حاملة حاويات عملاقة “إيفر جيفين”، أطلق الجنرال عبدالفتاح السيسي تصريحات حملت نبرة تهديد لإثيوبيا بشأن أزمة سد النهضة وإصرار أديس أبابا على بدء الملء الثاني لخزان السد في يوليو المقبل “2021م”. فقد اعتبر السيسي حرمان مصر من مياه النيل خطا أحمر، وهدد برد لا يمن تخيله سيتردد صداه في المنطقة حال تآثرت إمدادات مصر من المياه بسبب السد، الذي تشييده إثيوبيا على مجرى النيل الأزرق. وقال السيسي: “نحن لا نهدد أحدا؛ لكن لا يستطيع أحد أخذ نقطة مياه من مصر، وإلا ستشهد المنطقة حالة عدم استقرار لا يتخيلها أحد”، موضحا أنه لم يسبق له أن تحدث بهذه اللهجة، وأنه لا يهدد؛ لكن “المساس بمياه مصر خط أحمر.. ومن يريد أن يجرب فليجرب” على حد قوله.
تلقفت الآلة الإعلامية للنظام هذه التصريحات وراحت تضخم فيها من أجل تلميع صورة السيسي المتآكلة، وشعبيته التي باتت في الحضيض بعيدا عن بروباجندا الإعلام التي تقلب الحقائق وتنشر الزيف والضلال بين الناس. وفي اليوم السابع، كتب أكرم القصاص : «تصريحات السيسي حاسمة وواضحة وتؤكد أن مصر الصبورة المسالمة، لديها قدرات على حماية مقدراتها، تقدم السلام والتفاوض، لكنها جاهزة للتعامل مع كل السيناريوهات».
واعتبر الكاتب الصحفي عبدالباري عطوان، رئيس تحرير صحيفة “رأي اليوم” اللندنية، وهو بالطبع ليس محسوبا على النظام، أن «السيسي يقرع طبول الحرب ضد إثيوبيا ويهدد بالخيار العسكري». ويقول عطوان إن هذه هي “المرة الأولى.. التي يلجأ الرئيس المصري إلى هذه اللهجة التهديدية القوية”. ويُرجع الكاتبُ ذلك إلى عدد من الأسباب، منها إبلاغ إثيوبيا المبعوثَ الأمريكي إلى السودان أنها ستمضي قدما في المرحلة الثانية من ملء خزانات السد، وقيام إثيوبيا بإزالة الغابات من أجل تسهيل مرحلة الملء، وبدء السودان تفريغ خزان جبل أولياء جنوبي الخرطوم للحد من الآثار المتوقعة جراء عملية الملء الأحادي.
وبحسب عطوان نقلا عن مصادر مصرية وصفها بعالية المستوى، فإن السلطات العسكرية المصرية أقدمت على ثلاث خطوات في الأسابيع الماضية في إطار التّحضير للخِيار العسكري الذي بات يتقدّم على الخِيارات الدبلوماسيّة وبشَكلٍ مُتسارع:
الأوّل: إرسال أنظمة دفاع جوي إلى السودان لحماية أجوائه من أيّ ردّ فِعل عُدواني إثيوبي.
الثّاني: إرسال مُستشارين عسكريين مِصريين للتّمركز في مِنطقة الحُدود السودانيّة الإثيوبيّة المُتوتّرة حاليًّا، ومُساعدة القوّات السودانيّة.
الثّالث: إيفاد خُبرات لدراسة “طوباغرافيا” المِنطقة الحُدوديّة السودانيّة الإثيوبيّة القريبة من سدّ النهضة (على بُعد 25 كم)، ووضع الخرائط اللّازمة تَحسُّبًا لتوسّع دائرة الصّراع، أو اللّجوء إلى الخِيار العسكري. ونفت المصادر نفسها إرسال أيّ طائرات حربيّة مِصريّة إلى السودان لأنّه سيَسهُل رصدها عبر الأقمار الصناعيّة، ولكنّ هذا الاحتِمال غير مُستَبعد كُلِّيًّا، والأمر يتَعلّق بكيفيّة التطوّرات.
هل الحل العسكري وارد؟
يرى اللواء فايز الدويري أن المناورات الجوية “نسور النيل ـ2” بين مصر والسودان والتي انطلقت في اعقاب تصريحات السيسي بيومين فقط، استهدفت سيناريو لضرب السد حال تم اللجوء إلى عمل عسكري كحل أخير. وأن مصر تستطيع استخدام قاعدة مروى السودانية لتنفيذ تلك الضربة إذا شارك السودان فيها.
هذا السيناريو ـ بحسب الدويري ـ يتضمن التركيز على سلاح الجو، سواء باستخدام طائرات اعتراضية أو طائرات للهجوم الأرضي، وكذلك استخدام القوات الخاصة (الكوماندوز). وأوضح أن مصر تمتلك طائرات سوخوي “35” الروسية والتي تستطيع حمل 9 أطنان ونصف من المتفجرات، وتستطيع الطيران لمسافة تصل إلى 3700 كيلومتر. كما أن مصر تستطيع ضرب السد بمفردها من دون استخدام القدرات العسكرية السودانية، وذلك عبر استخدام قاعدة برنيس العسكرية، التي تبعد مسافة 1800 كيلومتر عن السد، وبما أن مدى الطائرة العملياتي يبلغ 1600 كيلومتر، فإن الطائرات المصرية تستطيع بلوغ سد النهضة وقصفه إذا خففت من حمولتها لصالح زيادة سعة خزانات الوقود، وستصبح طائرات الرافال وسوخوي 35 في حماية طائرات (ميغ 29) التي ستقوم بدور الاعتراض.
لكن عضو مفاوضات دول حوض النيل سابقا، وخبير القانون الدولي للمياه السوداني، الدكتور أحمد المفتي، يرى أن “بدء ملء سد النهضة الإثيوبي يعني تصعيد الأزمة بنسبة 100، حيث إن أديس أبابا بتلك الخطوة لا تترك أي خيار للسودان ومصر، إلا المواجهة أو الاستسلام، ولا توجد أي خيارات أخرى”. وبشأن فرص اللجوء للخيار العسكري، أضاف أن الخيار العسكري لم يكن سهلا منذ البداية، لكن عندما يمتلئ السد بالفعل سيصبح الأمر أكثر صعوبة، وأكثر خطورة، وأنه “بعد الملء الكامل للسد سوف تكون هناك خطورة كبيرة على السودان، وبالطبع ستأخذ مصر تلك الخطورة في الاعتبار حال لجوئها للخيار العسكري”.
عقبات أمام الخيار العسكري
وثمة بعض العقبات أمام هذا المسار قد جرى حل بعضها عبر التحالف العسكري مع الخرطوم: أولها يتمثل في التوقيت الأنسب لضرب السد، وبحسب خبراء فإن ضربه بعد ملء خزانه ستكون له آثار كارثية على دول جوار إثيوبيا ومن بينها السودان الذي قد يتعرض للفيضان الناجم عن انهيار السد، الذي قد يصل إلى مصر، لذلك فإن الأنسب هو ضرب السد في مراحل بنائه الأخيرة وقبل ملء الخزان، بحيث تصبح إعادة بنائه شبه مستحيلة.
ثانيها، أن علاقات أديس أبابا الدولية قد تحد من قدرات مصر على توجيه ضربة عسكرية للسد؛ فأثيوبيا تربطها علاقات وطيدة بقوى كبرى مثل الصين وفرنسا، وربما يشكل توجيه مصر ضربة عسكرية لسد النهضة رد فعل غاضبا من هذه الدول. أضف إلى ذلك مشكلات مصر الداخلية، إذ تعاني من وضع اقتصادي بالغ البؤس، فضلا عن الوضع السياسي المأزوم لنظام السيسي الذي ربما يستبعد فكرة الدخول في حرب قد تشكل تهديدا لبقائه، لا سيما إذا فشلت العملية أو لم تسفر عن حل للأزمة. فالمصريون لا ينسون أبدا أن السيسي هو من تسبب في إضعاف موقف مصر بالتوقيع على اتفاق المبادئ بالخرطوم في مارس 2015م؛ وهو الاتفاق الذي شرعن عملية بناء السد وسمح لأديس أبابا بالحصول على تمويل دولي واسع لبنائه بعد أن كانت يئست من ذلك بعد قرار البنك الدولي والصين وروسيا في 23 أبريل 2014م بوقف عمليات التمويل لعدم موافقة مصر على بناء السد الأمر الذي يجعله مخالفا لقانون الأنهار الدولية.
لهذه الأسباب، فإن أجهزة السيسي تفضل إستراتيجية المزج ما بين الدبلوماسية والضغط والتهديد وإبلاغهم بوضوح أن أى مساس بحصة مصر المائية سيعنى ضربهم وحرمانهم من أى ثمار للتنمية. وأنه فى اللحظة التى سيحرم فيها مواطن أو فلاح أو حقل زراعى مصرى من المياه، فلن تنعم إثيوبيا إطلاقا بمياه السد أو الكهرباء المتولدة منه. ولعل هذا كان الهدف من تصريحات السيسي الأخيرة، وهو التوجه الذي يتبناه النظام واللغة التي ستتواصل خلال المرحلة المقبلة مع اقتراب الملء الثاني لخزان السد؛ فقد بات السيسي وأجهزته على يقين كامل بأن أثيوبيا لا تعترف إلا بلغة القوة، ولا شيء غيرها. لكن أثيوبيا قابلت ذلك كله باستعلاء كبير وأفشلت جولة المفاوضات في كينشاسا ووضعت تهديدات السيسي أمام اختبار قاس؛ فإما أن يرضخ أمام أثيوبيا ويقبل بالأمر الواقع، أو حتى يلجأ إلى التحكيم الدولي وهو ما يسمح لأديس أبابا بفرض الأمر الواقع أيضا، أو يتجه إلى عمل عسكري مباشر قد ينجح فيه فيرمم شعبيته المتآكله، وقد يفشل فيكون ذلك نهاية مرحلة حكمه والدخول في مرحلة جديدة بأدوات جديدة ترعاها أيضا المؤسسة العسكرية. وبالتالي فإن مصر والمنطقة كله على شفا مرحلة شديدة التعقيد وبالغة الفوضى.