د. محمد الصغير يكتب: مذبحة كرداسة “2”

- ‎فيمقالات

كرداسة قرية ريفية كبيرة، على بعد كيلو مترات قليلة من منطقة الهرم الشهيرة، ومع اتساع رقعتها وكثرة سكانها وجمعها بين الزراعة والتجارة والشهرة الواسعة في صناعة المنسوجات، تحولت إلى واحدة من كبرى المدن في محافظة الجيزة، وللتيار الإسلامي فيها قاعدة عريضة، ولها تاريخ دعوي قديم، خرج منها قيادات إسلامية واجتماعية كبيرة، وهذا ما جعل صدامها مع النظام العسكري مبكرا، وذلك في عام 1965 عندما ذهبت مجموعة أمنية مسلحة بزي مدني للقبض على “سيد نزيلي” أحد شباب جماعة الإخوان وقتئذ، وكان حديث عهد بعرس، وكان خارج البيت وقت حضورهم فاقتحموا المنزل على زوجته فاعترضهم شقيقه، وحاولوا أخذ العروس بدل زوجها فاجتمع أهالي كرادسة ومنعوا هذه الجريمة، وسقط أحد أفراد الأمن مغشيا عليه نتيجة الشد والجذب والتدافع، وهنا شعر النظام بهزيمة وإهانة، فقرروا الانتقام من كل أهل كرادسة وتم حصارها عسكريا واستباحتها بكل ما تعني الكلمة، وعمدوا إلى إذلال رجالها وكبار عائلاتها أمام أزواجهم وأولادهم بطرق خسيسة سجلها التاريخ في أرذل صفحاته بأسماء أصحابها، وفي مقدمتهم شمس بدران طاغية العهد الناصري الذي قال عندي تفويض على بياض لإبادة كرداسة، وتكدست السجون بأهلها في واحدة من أكبر حملات الاعتقال والتنكيل التي شهدتها مصر، فالثأر قديم والمعركة لها جذور.

لمع نجم كرداسة مرة أخرى مع ثورة الخامس والعشرين من يناير، وحجزت لها مكانة متقدمة سياسيا واجتماعيا، ونظرا لقرب سكني منها وأداء خطبة الجمعة كثيرا في مساجدها، رأيت فيها نموذجا فريدا وحالة مصرية غير متكررة، جمعت بين فضائل القرية ومحاسن المدينة، وتعرفت على كرام أهلها عن قرب، وتأكدت بيننا وشائج الصداقة والحب، ولذا فإن حديثي عنها عن معرفة بالواقع والوقائع، وشهادة بيان أكتبها للتاريخ وألقى الله بها يوم يقوم الأشهاد.

كما أن النظام الحالي أنتج مسلسل الاختيار 2 وجعله تهيئة وتوطئة لما قام به من إعدامات شملت سبعة عشر معتقلا من أبناء كرداسة، فإنه أنتج أيضا مسلسل كرداسة “2” لتجديد الانتقام منها، ومن جذوة الثورة التي كانت أكثر وهجا واستمرارية فيها بعد الانقلاب العسكري في 2013 ومع تفاقم الكوارث بعد مجزرة فض اعتصام رابعة والنهضة، خرج الشعب المصري في أقوى ردة فعل تجاه قضاء العسكر على حلم الحرية والكرامة الاجتماعية الذي بدأ يتشكل بعد ثورة ميدان التحرير، ومع استباحة النظام للدماء واستهانته بحياة الأبرياء اتسعت دائرة العداوات وتنوعت الخصومات، وواكب ذلك حالة من السيولة الأمنية والكر والفر التي كانت بين الشرطة والجماهير الغاضبة، وفي أثناء هذه الأجواء الملغومة حدث اقتحام لقسم شرطة كرداسة التي جعلها موقعها وتاريخها قبلة للغاضبين والثائرين من مناطق الجوار، مما يجعل الجزم بأن شخصا بعينه ارتكب واقعة بعينها ضربا من الخيال، ولذا كانت كل الاتهامات والإدانات معتمدة على التقارير الأمنية، وربما لو خلت قائمة المتهمين من اسم الشيخ عبدالرحيم جبريل لكان الحديث عن تبرئة شخص بعينه يحتاج إلى قرائن ظاهرة وأدلة دامغة أيضا، وهو ما توفر وتضافر في حالة الشيخ الثمانيني مواليد 1941 حيث تقدم أهالي كرادسة بشهادات موثقة قانونيا في الشهر العقاري تبرئ الشيخ جبريل من المشاركة في الاقتحام، وأنه لم يترك الإمامة في مسجده في الصلوات الخمس إلا إلى كتاب تحفيظ القرآن، الذي خرج أجيالا من حفظة القرآن الكريم خلال أكثر من خمسين عاما، ولو طُلبت شهادة كل فرد من أهالي كرادسة لشهد بذلك، لأن المعروف عن الشيخ عبدالرحيم جبريل مع سنه وسابقته وطيب سمعته، أنه وأمثاله من وجهاء كرداسة هم صمام الأمان وصوت العقل الذي يسمع له الجميع ويقدره، ولم يكن يوما داعية قتل أو انتقام.

الشيخ جبريل أعدم في نهار رمضان، ولم يشفع له سنه ولا حرمة الشهر الفضيل، أعدم مع ذكرى انتصارات العاشر من رمضان التي كان من أبطالها وشهد قبلها حرب 1967 وأنهى خدمته في القوات المسلحة ليكمل مشروعه في خدمة كتاب الله، الذي نذر له حياته وجاب مساجد الغرب تاليا ومعلما، فتعلقت بأخلاقه القلوب، قبل أن تتعلق بنداوة صوته الأسماع، وقد ترافقنا في بعض السنوات في مساجد ألمانيا فكان مثالا للمسلم الهين اللين السهل، الخلوق بلا تكلف المتواضع بلا تصنع، معظما لنعمة الله عليه،

وجمعتنا رحلة حج قبل عشرين سنة، وكان يومها شيخا في عمره، شابا في حيويته ونشاطه يبادر إلى خدمة الجميع وعامتهم في عمر أولاده، وبادرني مع بداية المناسك بسؤال عجيب قائلا: أعلم أن التلبية شعار الحج، لكن هل يمكنني أن ألبي معكم بالقرآن، لأني نذرت أن أختم القرآن في أيام الحج الثلاثة؟ وبالفعل وفى نذره، وفي شهر الصيام قضى نحبه ولقى ربه، وسيبعث بين يديه صائما سائلا: يارب سل هذا فيما قتلني؟

أعاد إلينا مشهد إعدام الشيخ عبد الرحيم جبريل صورة قتل سعيد بن جبير على يد الحجاج، ولعله تكون نفس الخاتمة ولا يسلط السفاح المبير على أحد بعده.