الإعلان منتصف الأسبوع الماضي عن تنظيم فعالية شعبية في استاد القاهرة الخميس 15 يوليو 2021م بشأن الدعاية لحملة تطوير القرى ضمن "مبادرة حياة كريمة"، أثار وقتها تساؤلات كثيرة؛ لأن الجنرال عبدالفتاح السيسي، زعيم الانقلاب العسكري، كان قد دشن احتفالا ضخما بهذا الصدد 30 يونيو الماضي كجزء من الدعاية لذكرى المظاهرات التي مهدت للانقلاب العسكري. فلماذا لجأ السيسي إلى مثل هذه الاحتفالية؟ وما الدوافع الحقيقية وراءها؟ وهل حققت ما كان يريده النظام من أهداف؟
في البداية، يمكن الجزم بأمرين: الأول، أن الفعالية كانت هشة وضعيفة، ولم يستطع النظام بأجهزته الأمنية سوى حشد نحو 35 ألفا فقط حيث بدت مدرجات استاد القاهرة شبه فارغة في كثير من جوانبها رغم أن المشرفين على التصوير حاولوا جاهدين إخفاء ذلك، لذلك كانوا يفضلون تنظيمها إلى جانب النصب التذكاري لإخفاء نقص الحشد.
الثاني، أن هذه الاحتفالية لا علاقة لها بمبادرة "حياة كريمة" أو غيرها، بل هي مجرد ستار لأهداف أخرى تتعلق بالورطة الكبيرة التي وقع فيها السيسي ونظامه بشأن سد أزمة المياه. فخطاب السيسي ركز بشكل أساس على قضية سد النهضة، وأعاد تكرار عباراته للمصريين بأن يطمئنوا وألا يقلقوا رغم أنه قبل ذلك كان أكد مشروعية قلق المصريين!
وطالب السيسي الإثيوبيين والسودانيين بأن يذهب الجميع إلى توقيع اتفاق ملزم بشأن قواعد إدارة وتشغيل سد النهضة، مهددا بأن الخط الأحمر لمصر هو نقصان حصتها من المياه؛ الأمر الذي يمثل تراجعا عن الخط الأحمر الأول الذي كان يرى في الملء الثاني للسد دون اتفاق ثلاثي خطا أحمر!
وفي تعليقه على فشل التوجه إلى مجلس الأمن الدولي، تذرع السيسي بأن الهدف كان "وضع الموضوع على أجندة الاهتمام الدولي". واكتفى السيسي مجددا بالعبارات الرنانة التي تحمل طابع التهديد دون فعل جاد وحقيقي، حيث قال إن "المساس بأمن مصر القومي خط أحمر ولا يمكن اجتيازه شاء من شاء وأبى من أبى"، مؤكداً أن "ممارسة الحكمة والجنوح للسلام لا يعني السماح بالمساس بمقدرات هذا الوطن، والذي لن نسمح لأي كان أن يقترب منه، ولدينا في سبيل الحفاظ عليه خيارات متعددة نقررها طبقاً للموقف وطبقاً للظروف".
من جهة ثانية، فإن إشارة السيسي إلى أن الهدف من الذهاب لمجلس الأمن لم يكن إلا لوضع الأزمة على أجندة الاهتمام الدولي بحسب دبلوماسي سابق "شيء محزن للغاية لأنه يبدو منه أننا لم نكن مستعدين بالشكل الجيد لتلك الخطوة، على عكس إثيوبيا التي يبدو أنها كانت قد رتبت أوراقها جيداً، عبر تحديد أهدافها وحلفائها، واللعب على مصالحهم بشكل جيد". وتابع أن السيسي تحدث عن أن الخط الأحمر هو عدم نقصان مياه مصر، "وهو أمر في غاية الخطورة ويمثل تراجعاً مصرياً وانهزاماً جديداً، بعد ما كان خطنا الأحمر هو عدم الشروع في الملء بكافة مراحله من دون اتفاق ملزم يضمن عدم تحول السد إلى سيف على رقاب المصريين مستقبلاً، ومن قبل ذلك الخط الأحمر كان عدم استكمال البناء قبل الانتهاء من الدراسات الفنية، وهو ما لم يتحقق أيضاً".
من جهة ثالثة، وحول كواليس الفعالية، خرجت تسريبات تؤكد أن تنظيم هذه الفعالية كان مثار جدل وخلافات داخل أروقة الدوائر المقربة من السيسي وأجهزته الأمنية؛ على مدار الأسبوعيين الماضيين. وتنقل صحيفة "العربي الجديد" اللندنية عن مصادر وصفتها بالمطلعة أنه كان هناك مقترح بتنظيم مؤتمر شعبي حاشد يحضره عشرات آلاف الأشخاص في استاد القاهرة، أو في محيطه، وبالتحديد أمام النصب التذكاري لشهداء حرب أكتوبر (المنصة)، في مدينة نصر، شرق القاهرة، يكون هدفه تفويض السيسي لاتخاذ القرار المناسب في قضية سد النهضة الإثيوبي، مع ترديد هتافات تطالب بالحل العسكري، ضد إثيوبيا، وكان مخططاً لذلك المؤتمر يوم 5 يوليو قبيل جلسة مجلس الأمن التي انعقدت في 8 يوليو الحالي، بخصوص أزمة السد. حتى يكون ورقة ضغط على النظام والمجتمع الدولي قبل مناقشة الأزمة مجلس الأمن. وهو الرأي الذي تبناه جهاز المخابرات العامة. بينما رأت لجنة التخطيط الاستراتيجي التابعة لرئاسة الانقلاب برئاسة الوزيرة السابقة فايزة أبو النجا، مساعدة السيسي، والتي ارتأت أن تلك الوسائل لن تكون ذات فائدة أمام المجتمع الدولي، الذي لا يعترف سوى بلغة المصالح، والتشابكات الإقليمية، سواء مع مصر أو مع إثيوبيا. وأكدت هذه اللجنة وقتها، أن مثل تلك الفاعلية ستمثل ضغطاً على السيسي، خصوصاً في حال إخراجها في صورة تفويض شعبي، على غرار ما جرى في ما عرف بـ"جمعة التفويض" في 27 يوليو 2013، التي دعا إليها السيسي نفسه عندما كان وزيراً للدفاع لفض اعتصامات أنصار ثورة يناير والمسار الديمقراطي والرئيس المصري المنتخب، الشهيد محمد مرسي.
ورات لجنة التخطيط الإستراتيجي أنه إذا صدر قرار معاكس من مجلس الأمن أو لم يصدر أي قرارات تكون في صالح مصر والسودان، وقد فوّض الشعب السيسي لاتخاذ قرار رادع لإثيوبيا، فسيكون لزاماً على السيسي اتخاذ خطوات لن يكون في مقدوره الإقدام عليها، خصوصاً في ظلّ تحذيرات دولية، ورسائل تلقتها القاهرة من أكثر من طرف دولي برفض قاطع لأي أعمال عسكرية مهما كانت أسبابها أو أهدافها أو أشكالها.
وهناك تدخل السيسي بتأجيل الفعالية لما بعد جلسة مجلس الأمن مع إدخال تعديلات عليها وألا تكون أزمة سد النهضة شعارها الرئيسي"، وهو ما ظهر خلال الفعالية التي احتضنها استاد القاهرة، مساء الخميس، وجاءت تحت شعار مبادرة "حياة كريمة"، على الرغم من أن السيسي دشن المشروع نفسه قبل فعالية الخميس بخمسة عشر يوماً في احتفالية ضخمة، وبالتحديد في 30 يونيو الماضي.
ويبقى السيسي حتى اليوم عاجزا عن فعل شيء بينما تصر إثيوبيا على ملء خزان سدها دون اكتراث للعواقب على مصر والسودان؛ فلماذا عقد السيسي إذا صفقات السلاح المليارية؟ ولماذا يفتتح القواعد العسكرية على الطراز الأميركي إذا كان كل ذلك لن يستخدم في حماية مصر وشعبها وأمنها القومي؟ وإذا لم تحارب مصر من أجل "النيل" فمتى تحارب؟ وإذا لم يكن هذا هو التهديد الحقيقي للأمن القومي الذي يستوجب الحل العسكري فما هو التهديد الحقيقي للأمن القومي المصري؟
وإذا كان السيسي عاجزا وهو من تسبب في المشكلة بتوقيعه على اتفاق المبادئ بالخرطوم في مارس 2015م فلماذا لا ينسحب لو كان يحب مصر فعلا وليترك المجال لمن هو قادر على حماية مصر وشعبها وأمنها القومي؟ أم أن حبه للسلطة وجشعه وطمعه أكبر حتى من مصر وشعبها وأمنها القومي؟!