أعظم المُصلحين وإمام المربّين

- ‎فيمقالات

إنك إن درست العظماء جميعًا من يوم أن كانت البشرية وإلى الساعة، فلن تجد أعظم ولا أكمل من النبى محمد ﷺ، وإنك إن جئته من أى ناحية من نواحيه شئتَ فلن تستطيع حصر جوانب العظمة والعبقرية فيه، بل لم ولن يستطيع قلمُ إنسى أو لسانه الإحاطة بشمائل وأخلاق هذا الرجل العربى النسيب المتفرد فى البشر بصفات الجمال والجلال والكمال، وكيف يحيط بصفاته قلمٌ أو لسانٌ بعدما قال الله فيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، وفى الآية -على قصرها- توكيدان متتاليان وصيغة مبالغة لوصف خلق هذا الرسول الكريم.

ثلاثة وستون عامًا قضّاها «محمد» ﷺ فى الدنيا، كانت كلها أيام سعد على العالمين، نزل خلالها الوحى، وتمت الرسالة الخاتمة، وانمحى الضلال، وعرف الناس محاسن الأخلاق.. وما كان كلُّ هذا ليتم إلا على يد خير البشر، وأعظم الرسل حتى إذا أتم مهمته ترك الناس على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقد وفّى على أتم ما تكون التوفية، وسنونه الستون تشهد بكفاحه ودأبه، وإخلاصه لربه، وجهاده المتواصل، وفدائه لدينه ودعوته..

إن رجلاً وكِّل بمهمة هداية الناس جميعًا، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، عظيمهم وحقيرهم (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ: 28]؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، -لهو رجل الله، ومصطفاه من دون الناس، وخيرة رسله؛ لأجل ذلك أنشأه على عينه، فما كان فيه شىء من حظ الشيطان أو من صفات البشر الرديئة، بل كان سليم الصدر، طاهر النفس، نقى الفؤاد، جدير بالبشارة والنذارة اللتين أُوكل بهما.

كان صادقًا أمينًا وقت أن كان قومه فى ضلال مبين، وهو لا زال فى مدارج الصبا وطور الشبيبة لا يعى شيئًا عن النبوة، حتى اعترف له الضلاّل بذلك فقالوا: «ما جربنا عليك كذبًا قط»، «هذا الأمين، هذا الأمين». وكان ذا شرف وسيادة، مائلاً إلى الحنيفية السمحة، هينًا لينًا، ربانى النزعة، روحانى السلوك حتى ألجأه هذا الشعور إلى غار حراء يتعبد فيه الليالى المعدودات قبل أن يرجع إلى أهله.

فلما أتاه الملك وأبلغه بالنبوة تفجرت داخله قوى السماء، وأحاط به النور الذى يحيط بالأنبياء، وبدا عليه الجلال الذى يلازم الرسل الكرام؛ فكان لا ينام بليل ولا يستريح بنهار مجدًّا فى السير إلى الله، ساعيًا فى تعبيد الناس لربهم، وظل هكذا إلى أن حانت ساعته وهو يقول: «بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى». ثلاث وعشرون سنة ما استراح فيها ساعة «لقد ذهب عهد النوم يا خديجة»، وما أبطأ لحظة أو مسه طائف من يأس أو قنوط، بل كان يحتسب أجره على الله، ولكم احتمل الأذى من قومه ومن غيرهم فلا يزيد على قول «قد أوذى موسى أكثر من ذلك فصبر».

ثلاث وعشرون سنة هى عمر الدعوة لم يتحول وجهه عن السماء لحظة، كما لم يضيع ساعة فى غير عمل لتطبيق منهج الحياة الجديد الذى يسع مطالب الناس وتُدشن به حضارة ذات بهجة، على القيم التى جاء بها الوحى، وفى اللحظة التى كان يقول فيها «اللهم رحمتك أرجو…» كان ينادى فى أصحابه «أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلُّوا بالليل والناس نيام…»، وفى لحظة دعائه «اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدافع عن حرمات الله «.. والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

إن من يترجمون العظماء يتطرقون عادة إلى جوانبهم النفسية وحالاتهم المزاجية، والذى درسوا محمدًا ﷺ حتى من غير المسلمين، وجدوه فريدة من فرائد البشرية؛ صبرٌ عظيمٌ، وحلمٌ أعظم، وقدرة فائقة على الاحتمال، وثبات كالجبال الرواسى، وشجاعة وإقدام، وصدق وعدم تلون «إنه لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين»، ورفق ورحمة ضاقت بهما كتب التاريخ والسير.

ويتطرق دارسو العظماء كذلك إلى جوانب الموهبة و«الكاريزما»، ويقفون عند تلك المواهب بالوصف والتحليل، وهى متنوعة، ولا يجتمع لعظيم من هؤلاء إلا واحدة أو اثنتان، أما «محمد» ﷺ فقد جمع المواهب كلها، وحاز «الكاريزما» فى أجلى صورها؛ فما اجتمع به خصمٌ إلا أُعجب به واعترف بدعوته، ولا زال المشركون يحذرون أبناءهم وسياحهم من الاقتراب منه مدّعين -كذبًا- سحره وكهانته. أما مواهبه فحدِّث ولا حرج؛ فهو أفصح الناس وأبينهم، يتحدث الحكمة، وهى وحى السماء ولا ريب، فكان يأخذ بمجامع القلوب، ويبهر العقول، يقول ﷺ نفسه: «وأتيت جوامع الكلم»، «أنا أفصح العرب بيد أنى من قريش واستُرضعت فى بنى سعد».. ولا يخفى أنه كان أعظم القادة، وإمام المربين، والمرشد والمعين -صلى الله عليه وسلم فى الأولين والآخرين.