في الوقت الذي تواجه فيه إثيوبيا تحديات خطيرة إثر الحرب الأهلية الدائرة بين الجيش الأثيوبي وجبهة تحرير تيجراي التي استولت على الكثير من المدن الأثيوبية، إلا أن نظام المنقلب السفيه عبد الفتاح السيسي لم يستغل الفرصة ويمارس ضغوطا حقيقية على أديس أبابا، التي تستمر في البناء ومواصلة إنشاءات أعمال سد النهضة بلا توقف، بعد أن حشدت المزيد من قوات الحماية العسكرية حول منطقة السد لتأمين وصول مواد البناء واستمرارها.
وعلى الرغم من الأزمة الأثيوبية إلا أنها ما زالت تعتمد الخداع والتلاعب بمصر، إذ عرضت مؤخرا عبر اتصالات أجراها المسؤولون الإثيوبيون في فريق التفاوض الخاص بسد النهضة، مع نظرائهم المصريين، من خلال مسؤولين عن الملف في الاتحاد الأفريقي، لعرض بدء جولة جديدة من المفاوضات تحت مظلة الاتحاد.
رفض الحلول
وهذا ما يؤكد التلاعب والتحايل على مصر، بأن الجانب الإثيوبي يعرض التفاوض، بينما يستمر في الأعمال الإنشائية للسد، وهو أمر ترفضه القاهرة، التي انخرطت في مفاوضات طويلة الأمد سعيا منها لإيجاد حل للأزمة يحفظ للدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، حقوقها في مياه النيل.
وتستمر إثيوبيا في تعنتها وترفض أي حلول، ومستمرة في بناء السد من دون التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن معايير تشغيل وإدارة السد.
ووفق مراقبين، فإن العرض الأثيوبي للتفاوض، يأتي فقط كمحاولة لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي، وإحراج مصر وإظهارها وكأنها غير راغبة في التفاوض.
وكانت عدة صحف إثيوبية تحدثت في تقارير إعلامية، عن أنه على الرغم من الحرب الأهلية الدائرة على جبهات القتال، من جهة، والمناوشات بين الجيش الإثيوبي والجيش السوداني على الحدود من جهة أخرى، إلا أن إنشاءات سد النهضة مستمرة بمعدلاتها الطبيعية، وبنفس البرنامج الزمني المحدد سلفا، وكان وزير الطاقة والمياه الإثيوبي، هابتامو إيتيفا أكد، السبت الماضي، أن بلاده مستمرة في عمليات بناء سد النهضة، على نهر النيل، جنبا إلى جنب مع قتالها للإرهابيين، مضيفا في تصريحات لشبكة "إي بي سي نيوز" الإثيوبية، أن البناء المنتظم والأعمال المتعلقة بسد النهضة تتقدم بشكل جيد، وأن اكتمال المرحلة الثانية من السد سيتيح توليد 600 إلى 700 ميغاواط من الكهرباء.
وجاء ذلك في الوقت الذي أعلن فيه الجيش الإثيوبي، الأربعاء الماضي، أنه نشر وحدات في محيط منطقة سد النهضة، لتأمينه ضد أي خطر بعد محاولات لمهاجمته، متعهدا بتأمين عملية بناء السد حتى إتمامه، وأكد الجيش الإثيوبي أن قواته تعكف حاليا على حراسة المنطقة، بصحبة وحدات ميكانيكية ومشاة وأفراد من القوات الخاصة الإقليمية، لتوفير الحماية اللازمة من أجل استكمال البناء ونقل مواد البناء.
إثيوبيا تتلاعب بالسيسي
ورغم التصريحات الاستفزازية والتلاعب الإثيوبي بنظام الانقلاب المصري في ملف السد الكارثي على مصر، ما زالت تراهن سلطة الانقلاب في مصر على التدخل الأمريكي الذي لم يقدم شيئا لمصر سابقا، حيث تقنع الإدارة الأمريكية مصر بعدم التصعيد حاليا استغلالا لأزمة أثيوبيا الحالية مع جبهة التيجراي، واعدة بممارسة ضغوط أمريكية على أثيوبيا في المرحلة المقبلة حفاظا على حصة مصر من المياه.
وعلى الرغم من أن واشنطن لا تمارس في الوقت الحالي الضغط الكافي على إثيوبيا في قضية سد النهضة، نظرا إلى انشغالها بموضوع آخر، وهو الحرب الأهلية الداخلية الدائرة في إثيوبيا، إلا أن حكومة المنقلب السفيه تلتزم الآن سياسة الصمت التام تجاه أزمة السد، بعد حصولها على تطمينات من واشنطن بأنه بعد الانتهاء من أزمة الحرب الأهلية الإثيوبية التي تهدد الاستقرار في القرن الأفريقي، سوف تتدخل الأخيرة في أزمة السد مجددا لدعم موقف كل من مصر والسودان، وكانت واشنطن نصحت القاهرة بأن مآلات عدم الاستقرار في إثيوبيا ستكون كارثية النتائج على مصر.
وهكذا يضيع نظام الانقلاب فرصة ممارسة الضغوط السياسية على أثيوبيا لإنهاء مسار مرير من المفاوضات العبثية بلا نتيجة حتى الآن، نحو اتفاق ملزم لتشغيل السد وحماية حقوق مصر المائية.
المصالح والاستثمارات الإيطالية
وأمام الفشل الذريع لنظام العسكر في مصر لانتزاع اعتراف أثيوبي بمطالب مصر العادلة في مياه النيل، بدات إيطاليا الولوج لملف أزمة سد النهضة، لحماية استثماراتها الكبيرة في مشاريع المياه والزراعة وبناء السد .
وكانت إيطاليا قد عرضت على إثيوبيا ومصر، من خلال اتصالات مباشرة، التدخل على الصعيد الفني في قضية سد النهضة، للمساعدة في ابتكار حلول تحافظ على حقوق الدولتين، ولا تعرّض مشروع السد للخطر، وتحافظ في الوقت نفسه على الأمن المائي لدولتي المصب، وجاء العرض في ظل عدم وضوح موعد محدد لعودة مفاوضات سد النهضة برعاية الاتحاد الأفريقي .
وتسعى إيطاليا لاستغلال علاقتها التاريخية بإثيوبيا بالتدخل في قضية سد النهضة والتي لم يسبق لها الانخراط فيها، من أجل استعادة الحضور الدبلوماسي القوي في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي إثيوبيا بشكل خاص.
ووفق تقديرات إستراتيجية، فإن الهدف الآخر وراء تدخل روما في الأزمة، هو حماية الاستثمار الإيطالي الكثيف في مشروع السد والمشاريع الزراعية والكهربائية التي تم الاتفاق على الشراكة فيها بين الحكومة الإثيوبية وبعض الشركات الإيطالية، من أي تخريب محتمل للمشروع، حال تجاوز الخط الأحمر مع القاهرة، والتي سبق أن أعلنت أنه يتمثل في الإضرار بحصة مصر المائية.
وتشعر إيطاليا بالخطر على استثماراتها الكبيرة في السد.
وياتي العرض الإيطالي الحالي في الوقت الذي رفضت فيه روما أكثر من مرة قبل ذلك، أنها لا تستطيع إجبار المستثمرين على سحب هذه الاستثمارات أو تعطيلها، وذلك عندما حاولت القاهرة دفع الدول التي ينتمي إليها المستثمرون في مشروع السد إلى وقف الأعمال قبل مرحلة الملء الأول في يوليو 2020، وهي المحاولات التي باءت بفشل ذريع.
تضييع الفرص
ويبقى التساؤل الأهم، وهو لماذا لا تعتمد سلطة الانقلاب في مصر على قدراتها الذاتية في معالجة أزماتها الخارجية وتظل حبيسة للحدود التي ترسمها واشنطن لها، خاصة في ظل اهتراء موقف وقوة الجيش الإثيوبي الذي فضحته قوات التيجراي التي باتت قاب قوسين أو أدنى من الاستيلاء على العاصمة أديس أبابا بعد هزائم موسعة للجيش الأثيوبي، وهو ما قد يتيح لمصر التهديد بعمل عسكري، ضد السد في هذه المرحلة خاصة وأن القانون الدولي ما زال يدعم ذلك التحرك إن حصل، بعد ما ثبت من تهديد السد للأمن القومي المصري؟
ولكن الإجابة عن السؤال تبقى محزنة، إذ أنها ترتبط بتغول الجيش الانقلابي في السياسة والاستثمار وعدم تفرغه إلا لملء حسابات لواءاته وقياداته من المال الحرام، عبر الاستيلاء على الشركات والصناعات والأراضي والتوسع في الأنشطة الاقتصادية التي تجاوزت أكثر من 60% من اقتصادات المصريين.