أثار خبر وفاة السيدة «بهيرة الشاوى» زوجة السيد صفوان ثابت، رجل الأعمال صاحب شركة «جهينة» والمعتقل حاليًّا -الأحزان والشجون فى نفوس من يعرف قصة موتها؛ فقد ألقوا بزوجها فى سجن «العقرب» بتهم زائفة، أما الحقيقة فقيل لأنه لم يشأ أن يتنازل عن شركته الناجحة، ثم اختطفوا نجله «سيف» ليلقى مصير والده. هنا خرجت السيدة «بهيرة» تطالبهم بالإفراج عنهما، فأحالوها إلى النيابة بتهمة نشر أخبار كاذبة، وحققوا معها لساعات وهى السيدة المسنة. ولما عجزت عن فعل شىء أصابها المرض، فتك السرطان بجسدها الضعيف؛ لتلقى ربها شاكية ما فُعل بها وبأسرتها..
ولا يظن أحدٌ أن تلك حالة فريدة فى هذا البلد، فهناك عشرات، بل مئات الحالات التى مات ذووها قهرًا بعدما حُبس العائل ظلمًا، فخُرِّبت البيوت العامرة، وشُتتت العائلات الكريمة، وأُغلقت مصانع ومحال وشركات، وأُممت أراض وعقارات وسيارات، أو بعد قتل الابن أو الأب فتيتم الصغار وترمَّلت النساء، وقد غابت العدالة، وابتُلوا بمن تجرّدوا من الإنسانية والمروءة، فأصابهم القهر وماتوا موتة السيدة الفاضلة التى غادرت صابرة محتسبة، مفوضين أمرهم إلى من لا يضيع عنده الفتيل والقطمير.
إنّ من عدل الله تعالى ورحمته أنه يمنح الفرصة تلو الفرصة للظالم كى يتعظ ويتوب، ولو شاء ربك لجعل عاليها سافلها؛ (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) [الكهف: 58]، بل يذكِّرهم بأسلافهم الذين سلكوا مسلكهم فكانت عاقبة أمرهم خُسرًا؛ (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) [إبراهيم: 45]؛ فإذا لم يجد (سبحانه) آذانًا صاغية واستجابة لأمره ونهيه أحلَّ بهم العذاب؛ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]، (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [الأعراف: 44].
وغدًا تتحول أعراس الظالمين المصرِّين إلى مآتم، هكذا أنبأنا الكتاب العظيم وأخبرنا المعصوم ﷺ، وحكاه التاريخ القديم والحديث، بل رأينا ذلك رأى العين؛ رأينا الجبابرة يُقتلون فى حُفر ويبصق عليهم المارة والصبيان، ورأيناهم وقد انتُزعوا انتزاعًا من الرياش والقصور المنهوبة وأُلقوا فى السجون يذوقون من الكأس التى أذاقوها للناس، فلم ينجُ واحدٌ منهم من عذاب الدنيا، وهذا وعد الله على لسان نبيه؛ «بابان معجلان عقوبتهما فى الدنيا: البغى والعقوق»، وعذاب الآخرة أشد وأنكى.
ينسى الظالم ربه فينسيه الله نفسه، فيزداد جهلًا وبطرًا، حتى يظن كما ظن فرعون أنه إله يمنح ويمنع، ويسعد ويشقى، ويميت ويحيى ويزدرى الخلق غافلًا عن بكائهم وأنينهم، فإذا دعواتهم تصيبه كما يصيب السهم الرمية فتدور عليه الدائرة كما دارت على سلفه المجرمين؛ (أتهزأ بالدعاء وتزدريه… وما تدرى بما صنع الدعاء؛ سهام الليل نافذة ولكن… لها أمدٌ وللأمد انقضاء؛ فيمسكها إذا ما شاء ربى… ويرسلها إذا نفذ القضاء). لما دخل «خالد البرمكى» وولده السجن، قال له ولده: يا أبت! بعد العز صرنا في القيد والحبس؟! فقال: يا بنى! دعوة المظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها.
إن ما أصابنا، وكان يستعيذ منه السلف، من غلاء وبلاء وزنى وربا هو نتاج هذه المظالم وذلك الجبروت، ولن يرفع الله هذه البلاءات إلا بتوبة نصوح من الظالمين، وعوْد حميد إلى طريق الله المستقيم السالم من الجوع والخوف، كما لن يصلح الله أى عمل ما بقى هذا الفساد، وها هو الفشل يلاحق المشاريع كما يلاحق الموت صاحبه، وها هو الجوع يلهب ظهور المواطنين وقد وُعدوا من قبل بالسمن والعسل.
ومن طرائف ومبكيات هذا الباب أن كسرى اتخذ مؤدبًا لولده، فلما بلغ هذا الولد الغاية فى العلم والأدب استحضره المؤدب وضربه ضربًا موجعًا بدون سبب، فحقد الولد على المعلِّم وأسرَّها فى نفسه إلى أن مات أبوه وتولى هو المُلك من بعده. فاستحضر المعلِّم وسأله: ما حملك على أن ضربتنى فى يوم كذا دون جُرم؟ قال المعلم: علمت أنك تنال المُلك بعد أبيك، فأردت أن أذيقك طعم الضرب وألم الظلم كى لا تظلم أحدًا. فشكره وأمر له بجائزة.