لهذه الأسباب .. السيسي أكبر عقبة في طريق لم الشمل الوطني

- ‎فيتقارير

هناك شبه إجماع بين معظم الخبراء والمحللين على أن  الحوار الذي شرع نظام السيسي في تدشينه مؤخرا مع بعض قوى تحالف 30 يونيو، ما هو إلا مسرحية عبثية جديدة من مسرحيات النظام من أجل التغطية على حالة الفشل العريض في كافة ملفات وقطاعات الدولة. ويرى نفر من المحللين أن السيسي وأجهزته الأمنية اكتفوا بالحوار مع حفنة من اليساريين بهدف توريط المشاركين في سياسيات الخصخصة وبيع أصول الدولة التي شرع فيها النظام فعليا قبل بدء الحوار المزعوم، وتوريطهم كذلك في سياسات التوسع في الاقتراض، وأيضا إعادة تجديدة شرعية النظام تحت مظلة تحالف 30 يونيو رغم إقصاء أعمدة أساسية من أعمدة هذا التحالف، فلم توجه دعوات لكل من الدكتور محمد البرادعي،  ولا حتى للحزب الوطني القديم رغم أنهم كانوا إلى جانب الكنيسة يمثلون أكبر الحشود في سهرة 30 يونيو التي رعتها مؤسسات الدولة العميقة.

وبرصد المعطيات القائمة والخلفيات التي اغتصب بها الدكتاتور عبدالفتاح السيسي السلطة بانقلاب عسكري مع حفنة من الجنرالات فإن السيسي يبقى أحد أهم العقبات أمام أي مصالحة مجتمعية شاملة بالمعنى الصحيح والحقيقي للمصالحة وليس مجرد مسرحية سوف تنتهي إلى لا شيء. وذلك للأسباب الآتية:

أولا، تقف تصورات السيسي عن هذه المصالحة عقبة في طريق لم شمل المجتمع المصري؛ لأن السيسي لا يريد مصالحة بالمعنى المتعارف عليه،  بقدر ما يريد صك إذعان واستسلام من الإخوان والقوى السياسية كلها لتوجهاته وسياساته مهما كانت بالغة الشذوذ والإضرار بمصالح مصر وأمنها القومي.  يريد السيسي من الإخوان وغير الإخوان من القوى السياسية التي شاركت في ثورة 25 يناير صك إذعان واستسلام؛  يبدأ بالتوبة من الثورة والتبرؤ منها باعتبارها رجسا من عمل الشيطان،  ثم الإقرار بشرعية النظام وعدم معارضته مطلقا، والانصياع الكامل لسياساته وتوجهاته مهما كانت بالغة الشذوذ والانحراف وتمثل تهديدا مباشرا للأمن القومي المصري.  مقابل ذلك ربما يسمح بالإفراج عن كل أو بعض المعتقلين من غير المتهمين فيما يصفها بقضايا عنف وإرهاب؛ لأن نظام السيسي لا يرى شيئا يدفعه نحو أي مصالحة بمعناها الصحيح القائم على التنازل المشترك من كلا الطرفين  للوصول إلى نقطة التقاء؛ فهو يرى أنه تمكن بالفعل من التمكين لنظامه وتكريس سلطويته وبأدوات البطش والقمع استطاع أن يهمين على كل شيء في البلاد ويتحكم في مفاصل الدولة العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والدينية.  وقد عبر الكومبارس حمدين صباحي عن ذلك عندما صرح بأن باب المشاركة في الحوار مفتوح حتى للإخوان بشرط الإقرار بشرعية نظام 30 يونيو ودستور 2014م. وكان اللواء سعد الجمال رئيس ائتلاف "دعم مصر" سابقا قد صرح لصحيفة "الشروق" يوم السبت 18 يونيو 2016م بعدم ممانعة الائتلاف للمصالحة مع الجماعة وفق 5 شروط أبرزها أن المصالحة ستجري مع من لم تتلوث أيديهم بالدماء مع إدانة العنف والإرهاب والاعتراف بأخطاء الجماعة وضرورة إجراء مراجعة فقهية وفكرية على غرار مراجعات الجماعة الإسلامية في تسعينات القرن الماضي. لكنه لم يفصح مطلقا عن مصير القتلة المتورطين في جرائم رابعة والنهضة ومصطفى محمود والحرس الجمهوري والمنصة وغيرها من المذابح الجماعية التي ارتكبها الجيش والشرطة.  تصورات السيسي عن المصالحة السياسية  تشبه تماما تصوراته عن أزمة التصالح في مخالفات البناء مع الشعب كله؛ فالسيسي هو من خلق الأزمة وسن قانونا  اعتبر عشرات الملايين من المصريين مخالفين للقانون، وراح بناء على هذا القانون "الشاذ" يهدم مئات المنازل للمواطنين ليكونوا عبرة لغيرهم من أجل إجبار الشعب على دفع إتاوات باهظة مقابل تقنين بيوتهم التي يعيشون فيها منذ عشرات السنين، وتحركت جحافل الأمن والبلدوزرات لتجبر الناس بين "الدفع أو الإزالة"، رغم أن نحو 75% على الأقل من الشعب المصري باتوا فقراء بسبب سياسات الإفقار التي فرضها السيسي منذ انقلابه منتصف 2013م. وبالتالي فإن السيسي يريد مصالحة سياسية على غرار قانون التصالح في مخالفات البناء؛ تحقق له المكاسب ويفرض بها تصوراته على الجميع بأدوات البطش والقمع الأمني؛ وفق قاعدة "الإذعان الكامل أو السحق الشامل".

ثانيا، مواقف الإخوان ومبادئ الجماعة وتصوراتها تستبعد أيضا التوصل إلى مصالحة مع نظام السيسي؛ فالجماعة ابتداء ترفض التسوية بمعناها الذي يراه السيسي، وتدرك أن رئيس الانقلاب وأجهزته إنما يريدان من الجماعة صك إذعان واستسلام وإقرار بالهزيمة.  والجماعة تفضل الصبر على البلاء مهما كان عظيما على المذلة والإذعان للطغاة والظالمين، وقديما قل عنترة بن شداد: «لا تسقني ماء الحياة بذلة.. بل فاسقني بالعز كأس الحنظل». كما أن الجماعة تأبى أن تمنح السيسي أي شرعية وتصر على موقفها باعتباره مغتصبا للحكم بانقلاب عسكري. وقد كشف إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، لقناة "الحوار" اللندنية المقربة من الجماعة في حوار أجرته يوم السبت 19 سبتمبر 2020م عن اتصالات من سلطة الانقلاب (2016م) كانت الجماعة تظن أن المشير محمد حسين طنطاوي يقف ورائها لكن منير قال إن الجماعة تأكدت أن المبادرة صدرت من السيسي نفسه دون أن يكشف كيف تأكدت الجماعة من ذلك، حيث طلب السيسي من الجماعة الاعتراف بشرعيته والتوقف عن معارضته في الداخل والخارج مقابل الإفراج عن كافة المعتقلين وتقنين أوضاعهم وعودة المطاردين من خارج البلاد. وبحسب منير فإن الجماعة قد رفضت لعدم منح السيسي أي شرعية؛ لأن البلاد باتت في وضع صعب لا يمكن تحمله، مشيراً الى أن منح السيسي أي شرعية إثم وخيانة للوطن، حسب قوله. ويبدو أن الجماعة رفضت هذه المبادرة  أيضا لعدم وجود أي ضمانات لوفاء السيسي بتعهداته، علاوة على المخاوف من أن تكون فخا للجماعة وقد عرف عن السيسي الغدر والخيانة، كما أن قبول الجماعة بمثل هذه التسوية يضعها في ورطة كبيرة؛ لأنها إذا قبلت واعترفت بشرعية الانقلاب اليوم؛ فلماذا لم تعترف به من  البداية وتجنبت كل هذه المذابح وكل هذا الاضطهاد؟

ثالثا، من أحد أهم أسباب رفض الإخوان لأي مبادرة إذعان لسلطة السيسي أو منحه أي شرعية هو أن الجماعة تسطر بدماء قادتها وأبنائها أنبل وأشرف مواقف الثبات والصمود، بالتأكيد على أن اغتصاب الحكم بقوة السلاح من ولي الأمر الذي جرى اختياره من الأمة بطريقة شرعية نزيهة هو جناية عظيمة في حق الأمة تستوجب التكاتف لإسقاط كل مغتصب، ورد الاعتبار للأمة وحقها في اختيار حكامها بإرادتها الحرة وقدرتها أيضا على حماية هذا الاختيار مهما كانت التضحيات ومهما كانت الكلفة باهظة الثمن؛  وبالتالي فإن الجماعة  تبني بثباتها وتضحيات أبنائها  نظرية سياسية جديدة تنبثق من الإسلام ومبادئه وشرائعه؛ تضمن الجمع بين مبادئ الإسلام وأحكامه في قضايا "السياسة الشرعية" ومزايا الحداثة الغربية التي أسست لنظرية الديمقراطية باعتبارها أقرب صور وأشكال آليات اختيار الحكام إلى الإسلام وشرائعه. وبذلك فإن موقف الجماعة وثباتها ضد الانقلاب يعصف بأطروحات "الإمام المتغلب" باعتبارها اجتهادات جرى توظيفها لتبرير جرائم السطو على الحكم بقوة السلاح رغم تناقضها كليا مع مبادئ الإسلام التي تعلي من شأن الأمة وسيادتها وحقها في الشورى واختيار الحكام وخلعهم إذا أساءوا الحكم. وبالتالي فالجماعة تؤكد بمواقفها وثباتها على أن التغلب وقهر الشعوب بالقوة والطغيان مفسدة تسقطُ به العدالة ولا تصح به الولاية. وبالتالي فإن ثبات الإخوان لا يرد فقط الاعتبار للأمة وسيادتها وحقها في اختيار حكامها وخلعهم وفق الأدوات الدستورية والديمقراطية، بل ترد الاعتبار أيضا للفقة والفكر الإسلامي الذي جرى تشويهه على نطاق واسع من جانب فقهاء السلطان الذين يؤولون بعض النصوص والاجتهادات لتبرير جرائم السلطة وشرعنة السطو  على الدولة بقوة القهر والسلاح.

أخيرا، فإن المصالحة ــ من حيث المبدأ ـ ليست عيبا أو حراما، فكل الصراعات الدولية، والنزاعات الأهلية انتهت بمصالحات وتسويات سياسية، لكن مستقبل "المصالحة" يبقى مستبعدا في ظل الظروف الراهنة ما بقى السيسي قابضا على السلطة يعض عليها بالنواجز رغم فشله الكبير؛ لعدم توافر البيئة السياسية والإقليمية لتحقيق هذه المصالحة في ظل نظام تقوم شرعيته الإقليمية وضمان بقائه على رأس السلطة على أساس ضمان بقاء الانقسام الاجتماعي والزج بالإسلاميين وكل المعارضين في السجون والمعتقلات وضمان حماية مصالح الكيان الصهيوني والغرب عموما، عبر  قبضة قمعية ترى في معنى التسوية والمصالحة وإنهاء الانقسام خطرا يهدد وجودها. وستبقى مصر تنزف مابقى السيسي على رأس السلطة يمضي من فشل إلى فشل ومن سقوط إلى سقوط؛ لكن المشكلة أن الوطن بشعبه وناسه ومقدراته بات في مهب الريح أمام حالة الإنكار التي تستحوذ على السيسي ونظامه العسكري.

وتذهب تحليلات رصينة إلى أن السيسي  منزوع الإرادة؛  فهو مجرد منفذ لما يتلقاه من أوامر وتوجيهات وسياسات عليا تأتيه من تل أبيب وأبوظبي، ورعاة انقلابه الإقليميين، فالسيسي  مجرد بلطجي تم كراه (شراؤه) بالمال والمنصب لارتكاب عدة جرائم مركبة؛ ومن العبث التفاوض مع البلطجي؛  فمن أراد مصالحة؛ فالتفاوض يكون مع الجهات التي تحركه؛ ومفتاح السيسي في تل أبيب وأبو ظبي؛ معنى ذلك أن أي مصالحة مع نظام السيسي هي بالأساس مصالحة مع المشروع الصهيوني في المنطقة والذي تؤكد الشواهد والبراهين القطعية أن السيسي أحد حراس وحماة هذا المشروع في صفقة يضمن بها بقاءه على رأس النظام في مصر.

إزاء هذا المعطيات فإن موقف الإخوان بالغ الصعوبة؛ لأن التسوية مع السيسي في هذه الحالة هي تصالح مع المشروع الصهيوني وتصالح مع الطغيان والاستبداد؛ وهذا يخالف أهم مبادئ الجماعة ومرتكزاتها الفكرية والشرعية على حد سواء. فالمصالحة الحقيقية هي التي تضمن إنهاء كل أشكال الظلم والطغيان وتضمن سيادة الشعب على أرضه وثرواته ومؤسساته وتضمن استقلال القرار الوطني وأن يكون ميزان العدل قائما بالقسط دون محاباة أو تمييز.