هناك إجماع على أن ملف المياه وسد النهضة الإثيوبي هو أكبر تهديد للأمن القومي المصري، فحجز إثيوبيا للمياه هو أكبر تهديد وجودي لمصر عبر تاريخها كله؛ لأن مصر تعتمد اعتماديا كليا على مياه النيل باعتبارها توفر أكثر من 95% من مصادر المياه العذبة في مصر. فماذا فعل الجنرال عبدالفتاح السيسي من أجل حماية الأمن القومي المصري أمام هذا التهديد غير المسبوق؟ ولماذا يقف هو والمؤسسة العسكرية عاجزين تماما عن حماية مصر وأمنها القومي؟ ولماذا يفرض سياجا من السرية والتعتيم على كل ما يتعلق بملف سد النهضة؟ ولماذا تفرض المخابرات تعليمات صارمة لكل وسائل الإعلام بعدم تناول هذا الملف الشائك؟ ولماذا يحظر حتى على البرلمان مناقشة المشكلة التي تهدد مصر في وجودها وحاضرها ومستقبلها؟!
وحتى ندرك حجم المهانة والضعف الذي تمر بها مصر تحت حكم الدكتاتور العسكري، فإن السيسي يقف عاجزا أمام إثيوبيا؛ رغم أن الأخيرة تشهد حربا أهلية بين الحكومة المركزية في أديس أبابا وجبهة تحرير تيجراي في الشمال الغربي للربوة الإثيوبية التي منحها الله وفرة في المياه العذبة حيث يهطل عليها نحو تريليون م مكعب من المياه العذبة سنويا، بخلاف التربة الخصبة والطبيعة الخلابة والجبال الخضراء التي تتخللها الأنهار والشلالات، وهي الحرب التي أجبرت المنتخب الإثيوبي لكرة القدم بعدم اللاعب في بلاده وفي مباراته ضد المنتخب المصري في تصفيات بطولة الكان في مايو 2022م أقيمت المباراة في دولة مجاورة هي مالاوي.
هناك أجماع أيضا على أن من أشد مخاطر اكتمال الملء الثالث لسد النهضة الإثيوبي هو تقليص الخيارات أمام مصر والسودان وتفويت فرصة الخيار العسكري؛ لأن السد بات يحتجز فعليا نحو 22 مليار م مكعب وهي كمية مهولة قادرة على إغراق الخرطوم وتدمير السد العالي حال تم ضرب السد في هجوم عسكري بما يهدد بإغراق محافظات الدلتا خلال أيام.
وكشف موقع «مدى مصر» في تقرير له تحت عنوان «إثيوبيا تعلن اكتمال الملء الثالث لسد النهضة.. ومصدر: استمرار الملء يفوت فرصة الخيار العسكري على مصر» والمنشور بتاريخ السبت 13 أغسطس 2022م نقلا عن مصدر قريب م المفاوضات أن إصرار إثيوبيا على استكمال ملء السد يصعب الخيار العسكري أمام النظام المصري، إذا توافرت الإمكانيات الفنية واللوجستية لتنفيذه، موضحا أن السلطات المصرية كانت أقرب لاستخدام الخيار العسكري العام الماضي"2021"، وتحركت قوات عسكرية بالفعل إلى مناطق قريبة من السد، غير أن مصر تلقت تهديدات من قوى غربية باستهداف أي قوة عسكرية قبل توجيه أي ضربة لسد النهضة.
معنى ذلك أن السد يتمتع فعليا بحماية دولية رغم أنه إنشاء مخالف للقانون الدولي للأنهار لولا الدكتاتور عبدالفتاح السيسي الذي منح السد شرعية قانونية بالتوقيع على اتفاق المبادئ في الخرطوم في مارس 2015م. معنى ذلك أيضا أن الكمية الكبيرة من المياه التي تمكنت إثيوبيا من تخزينها أمام السد وفرت فعليا الحماية الذاتية للسد ضد أي هجوم عسكري محتمل من جانب دولتي المصب مصر والسودان؛ لأن حجم المخاطر المترتبة على ضرب السد باتت مدمرة على الدولتين؛ وبالتالي تقلصت الخيارات فعليا أمام الدولتين في ظل الفشل والفوضى في إدارة الملف من البداية؛ والتعامل مع ملف المياه باستخفاف واستهتار كما فعل السيسي عندما طلب من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أن يقسم بعدم الإضرار بمصر. وعندما اعلن من أديس أبابا عدم وجود مشكلة من الأساس متسائلا: «مين قال إن فيه مشكلة من الأساس؟»!
وكانت أديس أبابا قد أعلنت الجمعة 12 أغسطس 2022 عن اكتمال الملء الثالث لسد النهضة وسط زفة إعلامية كبرى في الإعلام والمؤسسات الحكومية والشوارع والميادين. وأعلنت الخميس الماضي، تشغيل توربين ثانٍ لتوليد الطاقة الكهربائية بقدرة 375 ميجاوات، ليرتفع بذلك مقدار توليد الطاقة من السد إلى 750 ميجاوات، وتوقع مدير السد «استكمال المشروع خلال فترة العامين ونصف العام القادمة»، ومن المقرر أن تشهد فترة اكتمال جسم السد تشغيل 11 توربينًا آخرين، بحسب الخطة الإثيوبية لتوليد طاقة كهربائية تقدر بـخمسة آلاف و150 ميجاوات من الكهرباء.
وتقول مديرة البرنامج الإفريقي بمركز الأهرام للدارسات السياسية والاستراتيجية، أماني الطويل أنه على المستوى الفني، تكشف الخرائط أن خطة ملء السد لا تسير وفقًا للمستهدف من الجانب الإثيوبي، مدعية أن إثيوبيا خزنت حتى الآن 17 مليار متر مكعب من المياه، وليس 22 مليار متر مكعب كما تدعي، وذلك لأنها تقوم بتصريف 60 مليون متر مكعب يوميًا من مارس الماضي خارج خزان السد إلى مصر والسودان، ولكن في الوقت نفسه يظل هذا الأمر مجرد احتمال، خاصة في ظل عدم إتاحة كافة المعلومات الخاصة به. وفي ما يتعلق بإمكانية التعامل مع ملف سد النهضة عسكريًا، قالت الطويل إن الأمر يخضع لرؤية العسكريين لمدى إمكانية ضرب السد، وبه 17 مليار متر مكعب من المياه، ومدى تأثيره ومخاطره، لافتة إلى أن الخيار العسكري كان أسهل في الأعوام الماضية.
معنى ذلك أن السيسي فوت على مصر فرصة الخيار العسكري من جهة بعد تخزين نحو 20 مليار م مكعب من المياه أمام السد، وفي ذات الوقت هو غير قادر على تحقيق أي اختراق يذكر في مسار التفاوض العبثي الذي تتعامل مع أديس أبابا باستعلاء وتعنت وتفرض رؤاها على القاهرة والخرطوم بقوة الأمر الواقع. فلماذا لا يرحل السيسي إذا كان بكل هذا الضعف والهشاشة وعدم القدرة على حماية مصر وأمنها القومي؟ لماذا يتشبث بالسلطة رغم فشله في إدارة كافة موارد الدولة؟ ولماذا لا يرحل وقد أغرق البلاد في دوامة الديون الرهيبة التي تجعل من نهضة مصر وتقدمها حلما بعيد المنال في ظل تفشي العجر والفشل والظلم والعنصرية؟!