قد يتبنى فريق من الإخوان مبدأ تسوية الأزمة مع النظام والتسليم بشرعية الدكتاتور عبدالفتاح السيسي ،على أمل تحقيق بعض المكاسب مثل الإفراج عن المعتقلين السياسيين واسترداد الأموال المنهوبة وعودة نشاط الجماعة دعويا بشكل رسمي؛ مع غض الطرف عن المظالم التي وقعت والدماء التي أريقت بدعوى الحفاظ على الوطن ولم الشمل لمواجهة التحديات الوجودية التي تواجه البلاد. هو رأي وجيه في كل الأحوال؛ فإذا كان الإسلام قد تجاوز عن المكره في العقيدة { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}، فمن باب أولى التجاوز عنه في باب التشريع والإمارة وهو أقل شأنا من باب العقيدة. قد يكون هذا مقبولا من الأفراد أن يأخذوا بالرخصة، أما الجماعات فهذا شأن آخر، وظني أن الجماعة يجب أن تأخذ بالعزيمة على الدوام، وأن يكون خطابها معبرا عن اسمى القيم وأنبلها وأكثرها أخدا بالعزيمة. أما الأفراد فلكل معتقل حرية الأخذ بالرخصة أو العزيمة وفق قدراته ومدى قناعته وصبره وتحمله. { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
من جانب آخر فإن من أحد أهم أسباب رفض الإخوان لأي مبادرة إذعان لسلطة السيسي أو منحه أي شرعية هو أن الجماعة تسطر بدماء قادتها وأبنائها أنبل وأشرف مواقف الثبات والصمود، بالتأكيد على أن اغتصاب الحكم بقوة السلاح من ولي الأمر الذي جرى اختياره من الأمة بطريقة شرعية نزيهة هو جناية عظيمة في حق الأمة تستوجب التكاتف لإسقاط كل مغتصب، ورد الاعتبار للأمة وحقها في اختيار حكامها بإرادتها الحرة وقدرتها أيضا على حماية هذا الاختيار مهما كانت التضحيات ومهما كانت الكلفة باهظة الثمن؛ وبالتالي فإن الجماعة تبني بثباتها وتضحيات أبنائها نظرية سياسية جديدة تنبثق من الإسلام ومبادئه وشرائعه؛ تضمن الجمع بين مبادئ الإسلام وأحكامه في قضايا "السياسة الشرعية" ومزايا الحداثة الغربية التي أسست لنظرية الديمقراطية باعتبارها أقرب صور وأشكال آليات اختيار الحكام إلى الإسلام وشرائعه.
من جانب ثالث، فإن موقف الجماعة وثباتها ضد الانقلاب يعصف بأطروحات "الإمام المتغلب" باعتبارها اجتهادات جرى توظيفها لتبرير جرائم السطو على الحكم بقوة السلاح رغم تناقضها كليا مع مبادئ الإسلام التي تعلي من شأن الأمة وسيادتها وحقها في الشورى واختيار الحكام وخلعهم إذا أساءوا الحكم وفق ضوابط وآليات دستورية وشرعية وديمقراطية. وبالتالي فالجماعة تؤكد بمواقفها وثباتها على أن التغلب وقهر الشعوب بالقوة والطغيان مفسدة تسقطُ به العدالة ولا تصح به الولاية. وبالتالي فإن ثبات الإخوان ــ مهما اتفقنا أو اختلفنا معهم ــ لا يرد فقط الاعتبار للأمة وسيادتها وحقها في اختيار حكامها وخلعهم، بل ترد الاعتبار أيضا للفقه والفكر الإسلامي الذي جرى تشويهه على نطاق واسع من جانب فقهاء السلطان الذين يوظفون بعض النصوص والاجتهادات لتبرير جرائم السلطة والسطو على الحكم بقوة القهر والسلاح. فالإسلام لا يعرف إلا طريقا واحدا للإمامة هي الشورى بإرادة الأمة النزيهة دون إقصاء أو تهميش أو تزييف؛ والانقلاب على الإمام أو الحاكم الذي اختارته الأمة يستوجب على الجميع مواجهة الخارجين عليه حفاظا على الدولة الدستورية الحديثة وحماية لسيادة الأمة وأمنها القومي. فنسف هذه الأسس (الدستورية الديمقراطية) هو أكبر تهديد للأمن القومي للبلاد.
من جانب رابع، تبقى المصالحة بمعناها العميق أبعد ما تكون عن الوضع الراهن في مصر؛ والأدق أن الحديث يدور عن تسوية النزاع لا التصالح فيه؛ لأن معنى التسوية لغويا يدور حول معاني إزالة الخلاف وحل النزاع سلميا دون اللجوء إلى القوة، وقد تتضمن شيئا من التراضي. أما المصالحة فهي اكثر عمقا في دلالتها؛ لأنها تنطوي على اقتلاع الأسباب المعنوية التي تسببت في الخصام والنزاع؛ وبالتالي فالمصالحة تعني انتزاع معاني الكراهية والضغينة بين الأطراف المتخاصمة، وتمهيد الطريق نحو تصافي القلوب؛ لذلك مدح القرآن الصلح { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}؛ لأنه ينتزع أسباب الخلاف المادية والنفسية. بناء على هذه الفروق اللغوية بين المعنيين، فإن المصالحة الوطنية تكاد تكون مستحيلة في ظل المعطيات الراهنة؛ لأنها تحتاج إلى قوة وسلطة قادرة على فرض العدل وإقامته على الجميع، وحتى التسوية تكاد تكون مستحيلة ما بقي السيسي على رأس السلطة، ويتحكم من خلال أجهزته في كل مفاصل السلطة في البلاد. فهل يمكن التوصل إلى تسوية للأزمة التي مزقت نسيج المجتمع، وزعزت استقراره واستنزفته ولا تزال تستنزفه حتى اليوم في ظل سلطة هي المتهم الأول والرئيس في كل هذه الجرائم والدماء التي أريقت والمظالم التي وقعت؟!
السيناريوهات المحتملة
الأول، هو بقاء الوضع على ما هو عليه؛ فالسيسي غير مستعد لأي تسوية لا تضمن بقاءه في السلطة ينعم بالصلاحيات الفرعونية المطلقة، كما تضمن إفلاته وإفلات كل المتورطين في الدماء من ضباط الجيش والشرطة من أي محاكمة عادلة. كما تضمن هيمنة أجهزته على مفاصل السلطة من الألف إلى الياء. والجماعة من جانبها غير مستعدة للتسليم بشرعية السيسي للأسباب التي ذكرناها في هذه الورقة البحثية.
الثاني، قبول الجماعة بتسوية سياسية تعترف فيها بشرعية النظام مقابل الإفراج عن بعض المعتقلين ورد بعض أموال الجماعة المنهوبة والعودة إلى المعادلة التي كانت قائمة في عهد مبارك. وهذا هو عين ما يريده نظام السيسي. لكن لا يوجد أي ضمانات لوفاء السيسي بشروط مثل هذه التسوية المجحفة للجماعة بعد كل الأثمان والتضحيات التي قدمتها.
الثالث، وجود تحولات دولية وإقليمية وتدخل جهات في أعلى هرم السلطة من أجل تغيير الأسس القائمة والمشهد برمته في إطار مصالحة مجتمعية شاملة تضم كافة أطياف الوطن تضمن إصلاحات جادة وحقيقية وفتح المجال السياسي ووضع قواعد للعدالة الانتقالية بما يضمن تعويض الشهداء ومحاكمة القتلة والقصاص للضحايا والشهداء. وهو أمر يكاد يكون مستحيلا ما بقي السيسي على رأس السلطة. هذا السيناريو إذا حدث فبدايته هي التخلص من السيسي وأركان نظامه، وسيكون مفاجئا وسريعا ومتصالحا مع المجتمع على الأقل في بداياته حتى تتضح نوايا القائمين عليه من داخل الجيش ومؤسسات الدولة. سيناريو (الانقلاب على الانقلاب). ويتعين هنا التنويه بشأن الفروق الجوهرية بين انقلاب على سلطة شرعية منتخبة بإرادة الشعب الحرة، كما جرى مع الرئيس مرسي والصادق المهدي في السودان، وانقلاب على سلطة منقلبة من الأساس واغتصبت الحكم بأداة غير دستورية بالقهر والبطش والإرهاب. فالأول هو شر الانقلابات، والثاني أخفها ويكون مقبولا بل واجبا إذا أعاد السيادة المخطوفة للشعب واحتكم إليه في تأسيس نظام شرعي جديد وديمقراطي دون إقصاء أو تهميش، كما فعل الفريق عبدالرحمن سوار الذهب في السودان؛ حيث قاد انقلابا عسكريا على حكم استبدادي ثم زهد في الحكم وترك الشعب يختار حكامه بإرادته الحرة.