في دوامة الأزمات الطاحنة التي تموج بها مصر في الفترة الأخيرة يعاني الأطباء، الذين أنفقوا زهرة شبابهم في الدراسة والتدريب في سبيل الارتقاء بمستواهم، ليجدوا أنفسهم يتقاضون مبالغ زهيدة لا تكاد تكفي شراء أقل الاحتياجات المتزايدة للتوافق مع المستوى المهني والاجتماعي الذي يعيشون فيه.
وفي هذا السياق، جاء تقرير نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، ليدق جرس إنذار كاشفا عن المعدلات الخطيرة التي وصلت إليها ظاهرة هجرة الأطباء في مصر، بسبب تدني رواتبهم وتدهور بيئة عملهم، لاسيما في المستشفيات الحكومية، محذرا من انهيار محتمل للقطاع الطبي الحكومي في مصر، والذي يخدم أكثر من 60 مليون مواطن بالبلاد نتيجة هذه الأوضاع.
استقالات جماعية
وباتت استقالات الأطباء من المستشفيات الحكومية جماعية، ففي عام 2022 وحده، استقال 4261 طبيبا من وظائفهم في المستشفيات الحكومية ، وفقا لتقرير نشر هذا الشهر من قبل نقابة الأطباء، هذه الأرقام هي الأعلى في السنوات السبع الماضية، حيث انسحب ما مجموعه 21068 طبيبا من القطاع الحكومي.
ووفق تقديرات نقابية، من المحتمل أن يكون العدد الفعلي للأطباء المستقيلين العام الماضي أكبر من المقدر .
فمن بين 212 ألفا و853 طبيبا مسجلين في نقابة الأطباء، غادر أكثر من نصفهم، 120 ألفا، مصر بالفعل إلى بلدان أخرى في السنوات القليلة الماضية.
ووفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ، كان هناك ما مجموعه 91 ألفا و500 طبيب يعملون في مصر في عام 2020.
وأشار التقرير إلى أن عمليات الهجرة تسببت في نقص حاد في الكوادر بمستشفيات الدولة.
وفي عام 2019، كان هناك 0.7 طبيب لكل ألف شخص في مصر، وفقا للبنك الدولي، مقارنة بالنسبة في ليبيا المجاورة، على سبيل المثال، حيث كان هناك 2.1 طبيب لكل 10 آلاف شخص في عام 2017، أو الجزائر ، حيث كان هناك 1.7 طبيب لكل 10 آلاف شخص في عام 2018.
الإنفاق على البناء الفاخر وإهمال الصحة
ورغم الأزمة الصحية التي تضرب البلاد، فإن السيسي وحكومته يفضلان الإنفاق على مشاريع البناء الضخمة، مهملا الصحة والتعليم.
يشار إلى أن حوالي 2000 من خريجي كليات الطب رفضوا التدرب في القطاع الصحي الذي تديره الدولة في عام 2022.
ويتعين على خريجي كليات الطب البالغ عددها 27 في البلاد الحصول على تدريب داخلي في مستشفى أو عيادة تديرها الدولة لمدة عامين قبل منحهم ترخيصا لممارسة تخصص طبي.
ومع ذلك، فإن فترة التدريب والسنوات اللاحقة أصبحت كابوسية بالنسبة لبعض الأطباء، ما يدفعهم إلى الاستقالات الجماعية، بسبب تدني الرواتب، حيث يحصل الطبيب المتدرب على راتب يتراوح بين 60 و70 دولارا شهريا، وهو مبلغ لا يكفي متطلباتهم الأساسية، عوضا عن تكاليف دراسة الطب الكبيرة.
وحتى الأطباء الكبار، يسخرون من رواتبهم، حيث ينقل "ميدل إيست آي" عن طبيب قلب كبير في مستشفى حكومي قوله متندرا إن "راتبه بعد خدمة 20 عاما بالقطاع يكفي بالكاد لشراء سروال وقميص وبعض الجوارب".
عقاب مضاعف
وقال ذلك الطبيب إن "إدارات المستشفيات تعاقب الأطباء على ارتكابهم أخطاء بإرغامهم على العمل أكثر، وأن جميع الأقسام في مستشفاه تقريبا تعاني من نقص في الموظفين، ولهذا قد يعمل طبيب واحد أو طبيبان في أقسام يجب أن يعمل فيها 6 أو 7 أطباء".
وينذر ما سبق بتهاوي العمل في المستشفيات التي تديرها الدولة، والتي تعد العمود الفقري للقطاع الصحي في مصر، حيث تقدم العلاج والخدمات لمئات الآلاف من الأشخاص يوميا، مجانا تقريبا.
وفي عام 2020، كان هناك 662 مستشفى مملوكا وتديره الدولة في مصر، وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وقال الجهاز إن "57 مليون مصري لديهم تأمين صحي وطني في نفس العام أي ما يقرب من نصف سكان مصر".
ورغم تدهور أوضاع هذه المستشفيات، فإنها تظل الملاذ الأخير لذوي الدخل المنخفض، يقدر أن 60 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر أو فوقه بقليل (3.20 دولار في اليوم) في مصر.
ويحتاج المرضى ثروة إذا طلبوا العلاج في أي من المؤسسات الصحية الخاصة في البلاد، مع ارتفاع أسعار الأدوية بشكل كبير ورفع المستشفيات أسعار خدماتها.
ويقول التقرير "ينتهي الأمر بالأطباء الذين تركوا المستشفيات التي تديرها الدولة ، إما للعمل في إحدى المؤسسات الصحية الخاصة في البلاد التي تغري الأطباء العاملين في الدولة بالمال والامتيازات الأخرى، أو مغادرة مصر تماما إلى دول الخليج الغنية أو أوروبا".
وهكذا تتحول مستشفيات مصر لمجرد أشباح بلا أطباء، وهو ما يضع صحة المصريين على المحك ، وسط غلاء الخدمات الطبية بالمستشفيات الخاصة وارتفاع أسعار الدواء بشكل كبير.
Facebook Comments