في قرار قمعي جديد، قرر قاضي التحقيق في المحكمة الابتدائية بتونس، حبس رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، بعد عدة ساعات من الاستجواب، فيما تقرر الإفراج عن عدد من قيادات الحركة الموقوفين منذ الإثنين الماضي، على خلفية آراء وتصريحات أدلوا بها في اعتصام بمقر "جبهة الخلاص الوطني" المعارضة.
وقال عضو هيئة الدفاع عن الغنوشي المحامي صابر العبيدي، في تصريحات صحفية إنه: "بعد جلسة تحقيق دامت أكثر من تسع ساعات، أصدر بطاقة إيداع بحق راشد الغنوشي".
وأضاف أن "النيابة العامة في تونس كانت قد قررت، الأربعاء، إحالة ملف رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي والموقوفين معه إلى التحقيق، بالمحكمة الابتدائية بتونس الدائرة 33 وبحضور هيئة الدفاع".
وتابع أنه "بعد المرافعات تقرر الإفراج عن القياديين محمد القوماني وبلقاسم حسن وسائق الغنوشي".
وشمل التحقيق 12 متهما، وهم رئيس البرلمان راشد الغنوشي وعدد من قيادات الحركة كمحمد القوماني وبلقاسم حسن، ووزير الخارجية الأسبق وصهر الغنوشي، رفيق عبد السلام، و6 أشخاص آخرين من حركة النهضة، إضافة إلى النائب عن ائتلاف الكرامة ماهر زيد.
ووجهت إليهم تهم الاعتداء على أمن الدولة الداخلي، والاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة وحمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا.
قرصنة أمنية
وتستهدف عملية القرصنة الأمنية على قيادات النهضة والمعارضة، التغطية على الفشل الذريع لسلطة الانقلاب في تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية للمواطنين، والعجز عن معالجة الأزمة المالية الخانقة التي تقود البلاد نحو الإفلاس وسط موجة غير مسبوقة من ارتفاع الأسعار حتى خلال شهر رمضان.
ومن المستغرب أن يتم اتهام الغنوشي بالإرهاب وتهديد أمن البلد، في الوقت الذي ظل فيه الغنوشي مدافعا عن الإصلاح والخيارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث ظل الغنوشي متبنيا التعايش والاندماج الوطني الأساسي للاستقرار السياسي والسلم الأهلي ، والذي حصل بمقتضاه على جائزة غاندي الدولية للسلام، لكن الآن يحاكم من أجله أمام قضاء سلطة الانقلاب.
ووفق مراقبين ، فالمحاكمة الحالية تتعدى الغنوشي لتشمل إدانة القيم والمبادئ الإنسانية التي يدعو لها ويبشر بها.
وأشار محامون إلى أن مضمون مداخلة الغنوشي محل "التتبع العدلي" لا تتضمن دعوة للتحريض ولا يمس بالسلم الأهلي، وأن الاتهام تعمد اجتزاء المداخلة لتبرير الإيقاف الظالم
كما أن منهج الحركة السياسي كان وسيظل نضالا مشروعا ومتحضرا يُعلي من مبدأ السلمية والمدنية، وهو ما تُؤكده خيارات الحزب بعد الثورة في رفض الإقصاء والتنكيل والدعوة إلى إقرار العفو العام والسعي إلى تحقيق التوافق والوحدة الوطنية واحترام المؤسسات العليا للدولة.
من جهتها، اعتبرت جبهة الخلاص الوطني المعارضة، في بيان لها، أن "إحالة أهم شخصية سياسية، بحكم موقعها وحضورها في مقدمة المشهد السياسي التونسي لأكثر من أربعين سنة، بناء على رأي أدلى به بمناسبة ندوة فكرية حوارية نظمتها جبهة الخلاص الوطني، إنما يدل على انهيار حالة الحريات في البلاد والذي انتهى إلى تجريم حرية الرأي والتعبير والنشاط السياسي السلمي".
تهم باطلة
واعتبرت الجبهة أن "إيقاف الشيخ راشد الغنوشي ورفاقه يأتي في سياق حملة طاولت أكثر من عشرين شخصية معارضة بتهم باطلة وفي غياب أدنى حجة على سبب احتجازهم لمدة تزيد عن الشهرين، كما تأتي في سياق غلق مقرات الأحزاب السياسية وحظر نشاط جبهة الخلاص الوطني دون إذن قضائي وبناء على أحكام الأمر المشؤوم رقم 50 لعام 1978 والذي يكفي التذكير بتاريخه (26 يونيو 1978) للدلالة على أهدافه وللظروف الدموية التي جاء فيها بهدف إخضاع البلاد إلى القبضة الحديدية والتي لم تحل دون سقوط أصحابها سقوطا مدويا.
والغنوشي هو أحد أبرز قادة جبهة الخلاص الوطني الرافضة لإجراءات استثنائية بدأ سعيد فرضها في 25 يوليو 2021 ومن أبرزها، حل مجلس القضاء والبرلمان وإصدار تشريعات بأوامر رئاسية وإقرار دستور جديد عبر استفتاء وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة قاطعتها المعارضة.
والأربعاء، أعلن المتحدث باسم الحرس الوطني التونسي حسام الدين الجبابلي، في تصريحات إعلامية، ارتفاع عدد الموقوفين في القضية المتهم فيها الغنوشي وعدد من قياديي الحركة إلى 7 أشخاص.
وأفاد الجبابلي بأن التهم الموجهة إليهم تتعلق بـ"الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة وحمل السكان على مهاجمة بعضهم بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب".
ومنذ 11 فبراير الماضي، نفذت السلطات حملة توقيفات شملت قادة وناشطين في المعارضة التي تعتبر الإجراءات الاستثنائية انقلابا على دستور الثورة (دستور 2014) وتكريسا لحكم فردي مطلق، ويتجاهل سعيد، الذي بدأ في 2019 فترة رئاسية تستمر 5 سنوات، دعوات المعارضة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وقال إن: "إجراءاته ضرورية وقانونية لإنقاذ الدولة من انهيار شامل"، بجد تعبيره..
فنكوش "حرب تحرير وطني"
ووضع قيس سعيّد التصعيد في سياق ما أسماها "حرب تحرير وطني وفرض السيادة الكاملة على بلاده" على حد تعبيره.
ورغم توقيف الغنوشي قبل ذلك، إلا أن اعتقاله الأخير يمثل تطورا خطيرا، وتبدو إجراءات الملاحقة الجديدة بحق المعارضين بمختلف مرجعياتهم الأيديولوجية والسياسية تصعيدا أكبر، فاستخدام قيس سعيّد مصطلحات من قبيل الحرب والسيادة، يؤشر على أنه ماضٍ في تنفيذ سياساته المثيرة للجدل.
وكان هذا جليا في وعيده للمعارضين، حينما دعا إلى التصدي لمن يعطل مسار الشعب، أو يحوّل البلاد إلى مجموعة من المقاطعات، على حد تعبيره.
ولم تختلف اتهامات سعيّد عن سابقاتها لتسويغ ملاحقة المعارضين والتضييق عليهم، لأنها تظهر كعناوين عامة متشابهة ضمن نظرية مؤامرة يتبناها الرجل من دون دليل أو تأكيد من جهات محايدة على الأقل.
ولم تسعف الرئيس التونسي محاولات زجه للقضاء بهدف شرعنة إجراءاته المتدحرجة ككرة الثلج، ومع ذلك واصل في أحدث خطاب له عملية إقحام القضاء بطريقة بدا فيها وكأنه يعطي تعليمات للسلطة القضائية، عبر دعوته لها إلى لعب دور في هذه المرحلة.
إذن هو أسلوب أظهر سعيّد رئيسا قد أزال الفاصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، لدرجة أن الأخيرة بدت تحت إمرة الرئيس التونسي.
تصفية الخصوم السياسيين
وتأتي الإجراءات القمعية الجديدة في إطار تصفية الخصوم السياسيين، إذ إن سعيد ماضٍ في طريقه الذي أعلن عنه من 25 يوليو 2021، دون أن يحيد قيد أنملة.
مجلس نواب منتخب وغيّر دستورا للبلاد وذهب لاعتقال أناس أبرياء دون أي حجة، ثم فوجئ بأن الشعب التونسي ليس معه، وظهر ذلك جليا في الانتخابات والاستفتاء.
كما أن اللجوء لسياسات الاعتقال والقمع هو إفلاس سياسي لسعيد، والذي لم يجد غير النهضة والإسلاميين الضحية الأبدية للدولة العربية المعاصرة، ليجلدهم ويشفي غليل كثير من المرضى حتى يصفقوا له وينسون الدواء والغذاء والثغرة الهائلة في ميزانية الدولة التونسية، والفشل السياسي والاقتصادي الذريع في البلاد، وفق مراقبين.
إذ بات في تونس دولة مؤسسات أو قانون، فسعيّد منذ الانقلاب استهدف القضاء ودمر المجلس الأعلى للقضاء.
ومع تلك الإجراءات تتفاقم الأوضاع السياسية والمعيشية والاقتصادية للتونسيين الذين باتوا على شفا مجاعة كبيرة واحتراب أهلي لا يمكن تجنبه مستقبلا، في ظل انفراد سعيد بالسلطة، وهو نفس المسار الذي سار فيه السيسي بمصر التي وصلت إلى الحضيض السياسي والاقتصادي حتى وصلت لحد الإفلاس، وباتت تعيش على أنبوب المساعدات الخارجية والقروض وبيع الأصول، وهو السيناريو الكارثي والثمن الذي تدفعه الشعوب العربية بصمتها على مستبديها.