إحسان الحياة

- ‎فيمقالات

الحياةُ رحلةٌ قصيرةٌ، وسفرةٌ سريعةٌ، نعود بعدها إلى الحياة الأبدية، وعلى قِصَرِ هذه الرحلة قد تكون حملاً ثقيلاً وعبئًا وبيلاً، ونحن –للأسف- من يصنع ذلك، بتعقيد العيش فيها، وإلزام أنفسنا بما لا يلزم، وبالأداء السيئ فى الحياة، والسلوكات المعوَجة والأعمال غير الهادفة.  
 
إن الذى كتب الإحسان على كل شىء –سبحانه- أراد لنا الكمال والجمال والسعادة وصلاح البال، ففتح لنا مغاليق هذه الأشياء، وسدَّ –فى المقابل- أبواب الشرّ ونوافذ الفتنة، وشرع لنا الأمل، وحضّ عليه، وكرّه إلينا اليأس والقنوط، وأمرنا بالصلاح والإصلاح، ودعانا إلى كل خير فلا يبقى أكرم عليه من ذلك الإنسان الذى علّمه البيان.

وهذا كله يُحسِّن جودة الحياة، وينأى بإنسانها عن منغصاتها وصخبها، ويمنعه من اللهث غير المجدى، بل المميت، وراءها والفشل من ثَمَّ فى الاختبار الذى وضعه الله للأنام فمنهم من رسب ومنهم من أحسن عملاً. وأول مدارج إحسان الحياة: الإحسان إلى النفس؛ بكفِّها عن الهوى والزيغ، وفطامها عن الميل والانحراف، والسفه والانخراق، وإلزامها الحشمة والوقار، وفعل الخيرات، وترك المنكرات، والجد لا الهزل، والتواجد فى مواطن العزِّ لا مواطن التُّهم.

تهون الحياة ويحياها ابنُ آدم سعيدًا ما كان معطاء، صافى النفس، سليم القلب، محبًّا للآخرين، حامدًا لهم، صابرًا عليهم، حليمًا معهم من دون ضيق ولا ضجر، ولا يكون ذلك إلا إذا تولّدت لديه نية وابتغى الأجر، ولا يكون ذلك إلا إذا فهم فلسفة الحياة، وأنّ هناك ربًّا خالقًا يجزى على الحسنة ويؤاخذ على السيئة، وأن الدنيا مزرعة الآخرة، وأنه لا شك مردود إلى ربه، طال عمره أو قصُر، وتلك سنة الله التى لا تتبدّل فى الأولين والآخرين؛ (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [العنكبوت: 20]. 

إن الحبَّ هو الوسيلة العظمى لتجويد الحياة؛ حبّ الحياة على ما بها من كَبَد، والحب هنا ليس الحب المنهىّ عنه والمقرون بكراهية الموت، لكنه الرضا بقسمة الله، والقناعة بعطيّته، والعيش فى كنف آية البقرة: عسى أن تكرهوا وعسى أن تحبّوا، ثم حبّ الناس والثقة فيهم؛ ما يولّد الأمان والطمأنينة كما يقول أطباء النفس، ويتقدم حبُّ الله هذه المحابّ وغيرها؛ فإن حبّه طاقة لا حدود لها فى الدفع إلى العطاء دون انتظار أجر، سوى الأجر من الله، وإلى الحياة بالأمل وانقطاع اليأس، وإلى التجرّد والثبات، والزهد والإخلاص، ودفع الملل وسائر ضروب الكرب.

تصير الحياة سعيدة مبهجة بالأحلام المشروعة ونشدان التميز، أحلام للأمة، وأحلام للوطن، وأحلام للعائلة، وأحلام للشخص ذاته، أحلام فى الحق وليست فى شهوة أو نزوة أو باطل، أحلام بالعيش فى أجواء الإيمان والرحمة والعدل والحرية والتآخى، أحلام بسيادة الإسلام وهيمنة الأخلاق ورواج الفضيلة واندحار الرذيلة وغلبة الحق وزهوق الباطل. 

كم من الناس ابتُلى بعدم التفكُّر فحاطته الشقاوة من كل جهة وقضّى حياته تعسًا لا أمل له؟ كثيرون، لا حصر لهم، لم يدركوا أن الدنيا دار ممر وليست دار مقرّ، ومنهم كثيرون حصّلوا من علوم الدنيا قناطير مقنطرة لكنها لم تدفع عنهم تلك الشقاوة والخواء؛ ذلك بأنهم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7]..

فسعادة الإنسان فى الموازنة بين هذه وتلك، فالله يحب المؤمن المحترف، الساعى على رزقه وعياله وأن يكون له حرفة يتكسّب منها، ويكره له أن تغمره تلك الحياة المادية فتشغله عن الأخرى، فلا سعادة فى الدنيا إلا إذا عملنا فيها للآخرة؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].

لم يترك الإسلام شاردة ولا واردة إلا بيّنها، ولم يدع المسلم فى حيرة من أمره فيما يأخذ وفيما يذر، فبيّن له حِكم الحياة ومواعظها، ومفرحاتها ومبكياتها، فإن فعل الخير نجا وعبر الممر سعيدًا مطمئنًّا، وإن كان غير ذلك غَبَنَ نفسه، وما أتعس ظالم نفسه..

 يدعو الإسلام إلى الإيمان والعمل الصالح، وحب الغير، ونبذ الظلم، ويحذِّر من الإثم والخطيئة، والذنب والمعصية، ويحاسب كل راعٍ على ما استرعاه، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، والعفو والصبر، والمروءة والنجدة، ويدعو إلى العلم والعمل، وينفِّر من البطالة والجهل، ويحرِّم الطغيان، ويحبِّذ البساطة والزهد، ويضع برامج شتى لكل ما يسعد الإنسان ويصنعه صناعة ربانية خالصة.

 فالحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة.