يمثل الحكم الذي أصدرته محكمة النقض السبت 15 يوليو 2023م، محطة فاصلة في تاريخ القضاء المصري بعهد الديكتاتور عبدالفتاح السيسي؛ فقد قضت النقض ببطلان حكم محكمة الجنايات بإدراج (20) إسلاميا على قوائم الإرهاب بالإضافة إلى إدراج شركتين على قائمة الكيانات الإرهابية، وقضت بإعادة النظر في أمر قرار إدراجهم أمام دائرة أخرى مغايرة للدائرة التي أصدرت حكم الإدراج.
وكانت الدائرة (13) بمحكمة جنايات القاهرة قد أصدرت حكمها في 26 إبريل 2022م برئاسة المستشار محمد عامر جادو والذي تضمن إدراج (20) إسلاميا على قوائم الإرهاب، وكذلك إدراج شركتي "إسباير برودكشن هاوس"، و"دلتا التعمير للاستثمار العقاري" على قائمة الكيانات الإرهابية، بناء على طلب الإدراج رقم 5 لسنة 2022 المقدم من نيابة أمن الدولة العليا بشأن القضية رقم 2741 لسنة 2021 حصر أمن دولة.
ترافع عن المدرجين على قوائم الإرهاب ــ حسب موقع مدى مصر ـ المحامي والحقوقي المصري خالد علي المرشح الرئاسي السابق، والذي استند في مرافعته على الدفع بعدم دستورية الحكم ومخالفته لنصوص الدستور والقانون. كما دفع بخلو الحكم من بيانات جوهرية مما يصيبه بالبطلان لفقدانه بياناً جوهرياً من مقومات وجوده قانوناً، ومن ثم لا يقبل تكملة ما نقص فيه من البيانات بأي دليل غير مستمد من أوراق القضية، أو بأي طريقة من طرق الإثبات، فضلاً عن أن بطلانه يستتبع بطلان قرار الإدراج ذاته لاستحالة إسناده إلى أصل صحيح شاهد بوجوده بكامل أجزائه مثبت لمنطوقه وأسبابه على نحو يصيب الحكم بالبطلان، ويجعله مستوجب النقض والإلغاء.
يقول خالد علي إنّ هذا الحكم هو الأول من نوعه الذي يصدر من وقت صدور قانون الكيانات الإرهابية ويقضي بالنقض والإعادة، وهو أول حكم منذ عام 2018 يقضي بإلغاء حكم جنايات بهذا الصدد، فمنذ عام 2018 لم يصدر أي حكم بإلغاء قرار الإدراج، وجميع الطعون رفض فيها الطعن وجرى تأييد قرار الإدراج. وأوضح علي أنه نظراً للخطأ الجوهري الذي أصاب الحكم، قررت المحكمة إلغاءه بالنسبة لجميع المتهمين، سواء من قام بالطعن بالنقض أو من لم يقدم طعناً، وسواء من قبل طعنه شكلاً أو من رفض طعنه شكلاً.
وضمّت قائمة الأسماء المدرجة على قوائم الإرهابيين في الحكم: "رجل الأعمال بهجت أحمد أحمد السيد قشلان، أحد أكبر تجار الذهب بمحافظة كفر الشيخ، وأحمد خضري حسن خلوي، وعمر أحمد علي حجازي، وعبد الله محمد مصطفى رجب، ومحمد حميدة حسن محمد، ومحمد عبد المنعم محمد البربري، وعلي إبراهيم علي القصاص، وأحمد حامد محمد غالي، ومتولي عاشور متولي شحاتة، وبدر جمعة محمد أحمد، وعماد فكري محمود البربري". كما ضمّت القائمة "رضا عبد الرازق عبد العليم محمد، وأحمد عادل الخضري محمد حسن، ومصطفى عبد الفتاح محمود عمار، وشريف عبد السلام عماد مدكور، ومحمد أحمد محمد زكي أمين، ومحمد حسام الدين الكفراوي، ومحمد سعيد عبد الفتاح محمود عمار، وعبد الرؤوف عبد المنعم محمد علي البربري".
ترويض محكمة النقض
وفي أعقاب الانقلاب العسكري، وقفت محكمة النقض بالمرصاد للأحكام الجائرة التي أصدرتها دوائر الإرهاب وقضت ببطلان معظم هذه الأحكام الأمر الذي استفز نظام السيسي وأجهزته الأمنية، وفي منتصف 2015م تعرضت محكمة النقض لحملة دعاية مضادة قادها موقع "دوت مصر" المحسوب على جهاز المخابرات حين نشر تقريرا تحت عنوان «كيف انتصرت محكمة النقض "للإخوان" على حساب "دوائر الإرهاب"؟» فالموقع الإعلامي المحسوب على أجهزة الأمن لم ير في أحكام النقض ببطلان أحكام دوائر الإرهاب انتصارا للعدالة بل انتصار للإخوان. ما يعني أن السلطة تبعث برسالة تهديد لمحكمة النقض وقضاتها باعتبارهم يصدرون أحكاما تصادم توجهات السلطة وسياستها. وخلص التقرير إلى أن محكمة النقض فى أغلب قضايا الإرهاب التى نظرتها انتقدت اعتماد محاكم الجنايات على تحريات جهاز الأمن الوطنى كدليل رئيسى. وفى بعض الوقائع دليلا وحيدا على ارتكاب المتهمين لجرائمهم، وقررت فى ذلك «أنها لا يمكنها التعويل فى تكوين عقيدتها على تحريات جهاز الأمن الوطنى، ولا تصلح التحريات أن تكون وحدها دليلا بذاته أو قرينة بعينها على الوقائع المراد إثباتها ضد المتهمين».. وهذا المبدأ الذى أشارت إليه المحكمة متواتر فى أحكام المحكمة الدستورية العليا، التى رفضت اعتبار تحريات الأمن دليلا ووصفها بأنها لا تعدو أن تكون رأيا لقائلها.
تعديلات قانون السلطة القضائية
هذه الأحكام أكسبت محكمة النقض مكانة مرموقة؛ ذلك أنها كانت تحرص على الاستقلالية عن مواقف السلطة السياسية، وكم من أحكام قضائية أصدرتها أنصفت فيها متهمين على غير رغبة من السلطة. امتدت هذه الأحكام حتى سنة 2017م. حين أدخل النظام العسكري تحولات ضخمة في بنية المحكمة مثلت انقلابا على مبادئها التي أرستها عبر عقود طويلة، بتمرير تعديلات قانون السلطة القضائية في 27 أبريل 2017م وتصديق السيسي عليه بقرار رئيس الجمهورية رقم 13 لسنة 2017م. وخلال المرحلة التي تلت ذلك أصدرت المحكمة أحكاما مسيسة وأيدت إعدام العشرات من المعتقلين السياسيين على ذمة قضايا سياسية بالأساس وكان آخرها الإثنين 14 يونيو 2021م بتأييد حكم الجنايات بإعدام 12 من قيادات ورموز ثورة يناير وجماعة الإخوان المسلمين. وما كان لمحكمة النقض المصرية أن تحكم بكل هذه الأحكام الجائرة من إعدامات جماعية وأحكاما بالمؤبد لمئات المعتقلين السياسيين لولا عمليات الإخضاع التي مارسها نظام الديكتاتور عبدالفتاح السيسي للقضاء كله وعلى رأسه محكمتي النقض والإدارية العليا.
تعديلات قانون الإجراءات الجنائية
بالتزامن مع تمرير تعديلات قانون السلطة القضائية، أجرى النظام تعديلات على قانون الإجراءات الجنائية والطعن بالنقض بشأن تقييد سماع الشهود أمام محكمة بسلطة تقديرية للمحكمة وإلزام محكمة النقض بالتصدى لموضوع الطعن من المرة الأولى دون إعادة والاعتداد بحضور وكيل عن المتهم أو المدان الغائب أو الهارب ليصبح الحكم الصادر ضده حضوريا وواجب النفاذ، وهى التعديلات التى صدرت بالقانون 11 لسنة 2017م. معنى ذلك أن محكمة النقض أضحت جهة فصل فى الموضوع وليست لنظر قانونية الحكم فقط، وبالتالى يتعين عليها الفصل في القضايا وعدم إعادتها للاستئناف مرة أخرى، وبالتالي وجدت المحكمة نفسها في ورطة كبيرة؛ إما أن تلتزم بصحيح القانون وعدم الاعتداد بالتحريات الأمنية فقط كدليل إدانة وهو ما استقرت عليها أحكامها، أو تتخلى عن هذه المبادئ القضائية المستقرة لأن الالتزام بصحيح القانون سوف يدفع بها إلى صدام غير مأمون العواقب مع النظام، فاختارت المحكمة الإذعان والخضوع للسلطة ولم تتمسك بمبادئ العدالة والنزاهة والإنصاف فسقطت وسقط معها أي معنى للدولة والقضاء والعدالة التي جرى نحرها على منصات القضاء المسيسي على النحو الصادم الذي نعاينه.
ولهذه الأسباب يكتسب حكم النقض الأخير أهمية كبرى لأنه قد يمثل استفاقة لأكبر هيئات القضاء شموخا وإنصافا على مدار العقود الماضية. وقد يمثل محطة فاصلة تعيد لمحكمة النقض مكانتها التي تزعزت خلال السنوات الماضية. وكان محكمة النقض وصفت قرار النيابة العامة في مارس 2015م بإدراج 18 من قيادات الإخوان على قوائم الإرهاب ضمن قضية "أحدث مكتب الإرشاد" أنه "لغو ﻻ أثر له ومنعدم من الأساس ولا يعتد به ولا يجوز نظره من الأساس لبطلانه" مما يسم تصرفها باﻻنعدام والسقوط، ما يحرر قيادات اﻹخوان رسمياً من وصفهم قانونياً باﻹرهاب، ويلغي جميع اﻵثار المترتبة على إدراجهم، ومنها منعهم من التصرف في أموالهم ومغادرة البلاد في حالة خروجهم من السجون.