قبل 54 عاما، وفي صبيحة الحادي والعشرين من أغسطس عام 1969 اقتحم الإرهابي الصهيوني أسترالي الجنسية دنيس مايكل روهان المسجد الأقصى بالتنسيق مع سلطات الاحتلال، وأضرم النار في جناحه الشرقي لتلتهم ألسنة اللهب المصلى القبلي وتأتي على أثاثه وجدرانه وسقفه وسجاده وزخارفه النادرة وكل محتوياته من المصاحف والأثاث.
حين اندلعت النيران في المصلى القبلي هب الفلسطينيون لإنقاذ الأقصى قبل أن تجهز عليه النيران فلجؤوا لإخمادها بملابسهم والتراب والمياه الموجودة في آبار المسجد، رغم محاولات الاحتلال منعهم من الوصول إليه وقطعه المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد وتعمده عرقلة وصول سيارات الإطفاء، ما أدى إلى تأخر إخماد النيران حتى ساعات المساء.
وبلغت المساحة المحترقة من المسجد أكثر من ثلث مساحته الإجمالية، حيث قدرت بما يزيد على 1500 متر مربع من مساحته البالغة 4400 متر مربع، وأحدثت النيران ضررا كبيرا في بناء المسجد وأعمدته وأقواسه، ما أدى إلى سقوط سقفه وعمودين رئيسيين مع القوس الحجري الكبير الحامل للقبة.
سلطات الاحتلال التي ادعت أن روهان مختل عقليا ورحلته إلى أستراليا نفذت جريمتها دون أي مساءلة أو محاسبة رغم الرفض الدولي الواسع، حيث اكتفى المجتمع الدولي بإصدار مجلس الأمن قراره رقم 271 في الخامس عشر من سبتمبر عام 1969 بأغلبية 11 صوتا وامتناع أربع دول عن التصويت، من بينها الولايات المتحدة، والذي أدان إسرائيل واعتبرها مسؤولة عن الحريق باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، وطالبها بإلغاء جميع الإجراءات التي من شأنها تغيير وضع القدس، وحتى اللحظة لم يتخذ المجتمع الدولي أي خطوات عملية تلزمها بتنفيذ هذا القرار أو غيره من القرارات الخاصة بالقضية الفلسطينية.
نيران مستمرة
ومنذ إحراق المسجد قبل 54 عاما لم تتوقف النيران بل تزداد خطورة وتسارعا، من حيث تكثيف اقتحامات المستوطنين والاعتداء على المصلين والمرابطين الفلسطينيين في المسجد وإبعادهم عنه، إضافة إلى الحفريات والأنفاق ومحاولة الاحتلال السيطرة عليه وإحاطته بالبؤر الاستيطانية.
ويعد استهداف الأقصى سياسة ممنهجة للاحتلال تندرج في إطار مخططه لتدمير كل المعالم الدينية والحضارية والتاريخية في مدينة القدس، التي تتعرض لعمليات تهويد واستيطان لطمس هويتها العربية والإسلامية.
ولعل ما شجع الاحتلال على أفعاله الإجرامية، ازدواجية المعايير الدولية وعدم ملاحقة الاحتلال على جرائمه، وهو ما شجعه على استباحة كل المقدسات والاستمرار في تغيير معالم القدس.
حرب التهويد متواصلة
وقد تبنت جماعات الهيكل والحكومة الإسرائيلية أهدافا مرحلية تراها أقرب إلى التحقق، وهي بشكل متسلسل: التقسيم الزماني، والتقسيم المكاني، والتأسيس المعنوي للهيكل عبر فرض الطقوس التوراتية في الأقصى.
فمحاولات جماعات الهيكل وحكومة التطرف الصهيوني، لتهويد المسجد الأقصى مضت في مسار متعرج، فتقدمت نحو أهدافها في بعض الأحيان وفُرضت عليها تراجعات في أحيان أخرى، وكان الهدف النهائي لجماعات الهيكل واليمين الإسرائيلي هو (الإحلال الديني) بإزالة المسجد الأقصى المبارك بكامل مساحته من الوجود وتأسيس الهيكل المزعوم مكانه وعلى كامل مساحته، وما تحرزه من تقدم أو ما يفرض عليها من تراجع مرتبط بهذه الرؤية الإجمالية.
وفي طريقها لتحقيق هذا الهدف بعيد المنال، تبنت جماعات الهيكل والحكومة الإسرائيلية أهدافا مرحلية تراها أقرب إلى التحقق، وهي بشكل متسلسل: التقسيم الزماني، والتقسيم المكاني، والتأسيس المعنوي للهيكل عبر فرض الطقوس التوراتية في الأقصى.
وقطعت حكومة الاحتلال وجماعات الهيكل شوطا في فرض التقسين الزماني، من خلال استئناف الاقتحامات الفردية عام 2003، وفتح باب الاقتحامات الجماعية عام 2006، وفرض أوقات الاقتحام الصباحية والمسائية بواقع 5 ساعات يوميا من الأحد حتى الخميس بدءا من عام 2008.
لكنها لم تصل إلى السقف الذي كانت تتطلع إليه وهو التقسيم الزماني التام، فقدمت تلك الجماعات 3 مشاريع قوانين عام 2012 و2013 لتقسيم ساعات اليوم مناصفة بين المسلمين واليهود، وتقسيم المناسبات بحيث يخصص الأقصى لليهود تماما في الأعياد اليهودية، مقابل تخصيصه للمسلمين وحدهم في الأعياد الإسلامية.
وحاولت حكومة الاحتلال فرض ذلك خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 2015؛ مما أدى إلى انطلاق هبة القدس، فتراجعت تماما عن هذا المقترح.
ولم يلبث التقسيم الزماني أن اصطدم بهبة شعبية أخرى عام 2017، حين فشلت محاولة فرض البوابات الإلكترونية والكاميرات، واضطر الاحتلال إلى تفكيكها بعد أسبوعين من تركيبها.
ولّد ذلك إحباطا لدى اليمين الإسرائيلي وجماعات الهيكل المتطرفة انتهى إلى التخلي عن اعتبار التقسيم الزماني مقدمة للتقسيم المكاني، وتفعيل مخطط التقسيم المكاني للساحة الشرقية للأقصى تحديدا.
التقسيم المكاني
وقد طُرح كفكرة بالتوازي مع التقسيم الزماني، وكان من الواضح أنه يستهدف ساحات المسجد الأقصى في الأساس، لكنه كان هدفا أصعب من التقسيم الزماني باعتباره يتطلب اقتطاعا فيزيائيا لجزء من الأقصى.
ركز مخطط التقسيم المكاني على بقعتين؛ الأولى منهما والأسبق هي الساحة الجنوبية الغربية للأقصى ما بين المصلى القبلي وباب المغاربة، وكان السلوك العملي لاستهدافها مقروءا منذ عام 2005، وهذا ما جعل الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني تنظّم فعاليات رباطها عند مصطبة أبي بكر الصديق (مصطبة الصنوبر) على يسار الداخل من باب المغاربة، مما حول هذه الساحة إلى بؤرة توتر واشتباك دائم وأفشل استهدافها.
ثم بدأت أنظار الحكومة وجماعات الهيكل تتجه -بدءا من عام 2012- إلى الساحة الشرقية للمسجد الأقصى، وتحديدا إلى محيط باب الرحمة محاولة البناء على مقدمات أرستها حكومة الاحتلال، حينما منعت إخراج بقية الردم المزال من أمام البوابات العملاقة للمصلى المرواني عام 2000، مما اضطر الأوقاف إلى تكويم ذلك الردم في الساحة الشرقية للأقصى التي لم تعد صالحة للصلاة وهُجرت، ثم بقرار قضائي بإغلاق مصلى باب الرحمة عام 2003.
أدرك المقدسيون والمرابطون هدف الاحتلال وأعمروا الساحة الشرقية عدة مرات كان آخرها في يوليو 2017، فردت سلطات الاحتلال بتبني سياسة إبعاد كل من يدخل محيط باب الرحمة من المصلين وبوضع نقطة شرطة فوق المصلى.
ثم أعلنت استحواذها عليه في فبراير 2019، وهو ما رد عليه المقدسيون بهبة باب الرحمة التي تمكنت من إعادة باب الرحمة إلى أصله كونه مصلى، باعتباره جزءا لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك.
اليوم، يعول الاحتلال مجددا على الجهة الجنوبية الغربية للأقصى، لكن باستهداف التسوية وليس الساحة بذاتها، وهي تسوية لم ترمم منذ 94 عاما، ويسبب تآكلها تصدعات متواصلة وتساقطا في حجارة السورين الغربي والجنوبي للأقصى، ولا بد من اعتبارها جبهة أولى للدفاع عن المسجد الأقصى اليوم.
طقوس توراتية
أما الأجندة الثالثة، فقد مضت إليها حكومة الاحتلال وجماعات الهيكل بعد أن اصطدم مشروع التقسيم المكاني بهبة باب الرحمة عام 2019، فتبلورت بعد 6 أشهر من الهبة رؤية مرحلية جديدة تتمثل في التعامل مع المسجد الأقصى باعتباره هيكلا قائما عن طريق فرض كامل الطقوس التوراتية فيه بشكلها الموصوف في التوراة، مع التركيز على إحياء الرمزيات الخاصة بالهيكل داخل المسجد الأقصى، لتعزيز النظرة اليهودية والصهيونية إليه باعتباره هيكلا يشكل مركز العبادة اليهودية في العالم.
وأبرز تلك الطقوس الخاصة محاولة تقديم القربان فيه، والسجود الملحمي على حجارته، وإحياء طبقة الكهنة باعتبارها تقود صلوات اليهود في الأقصى بموازاة إمام المسلمين.
قطعت هذه الأجندة أشواطا كبيرة في السنوات الثلاث الماضية، وصولا إلى السجود الملحمي الجماعي 29 مايو 2022.
هذا يعني أن فرض الطقوس التوراتية هو الخطة المرحلية الأسرع تطبيقا حتى الآن بين الثلاثة، مما يفرض حاجة موضوعية لإدراك طبيعتها وأهدافها وضرورة التصدي لها، بإفشال اقتحامات الأعياد التوراتية والصهيونية تحديدا لأنها تشكل ذروات فرض هذه الأجندة.
صمود الفلسطينيين ورباطهم
من جهته، مسؤول المكتب الإعلامي في حركة الجهاد الإسلامي داوود شهاب بين أن إشعال الإرهابي مايكل روهان النار في المسجد الأقصى في مثل هذا اليوم من عام 1969 شكل إعلانا واضحا من العدو بأن الأقصى يقع في دائرة الاستهداف، موضحا أن انتهاكات الاحتلال المتواصلة للأقصى استكمال لذلك الحريق الذي يواصل الفلسطينيون محاولاتهم لإخماده بتصعيد المقاومة دفاعا عن الأقصى والقدس حتى التحرير وإنهاء الاحتلال.
فيما يواصل الفلسطينيون بصمود وثبات إحباط مخططات التهويد لمنع الاحتلال من تغيير الوضع القانوني والتاريخي القائم في المسجد الأقصى وفي مدينة القدس.