في ظل عجز نظام السيسي السياسي والاجتماعي والثقافي والإعلامي، عن إعداد قامات فكرية أو ثقافية أو إعلامية، طوال العشرية السوداء، نظرا للقمع المجتمعي الشامل والقهر الاجتماعي وقضم كل الحريات، لم يجد السيسي ونظامه العسكري، سوى وزير السياحة السابق خالد العناني، ليرشحه لمنصب مدير اليونسكو.
والغريب أن العناني المشهور بإزالة الآثار وشطبها من السجلات، يجمع عليه ممثلو الدول العربية، خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب، مؤخرا، وهو الإجماع الذي يحدث للمرة الأولى في تاريخ المرشحين المصريين، وهو ما يراه مراقبون أن له أثمان قادمة، تبدو غير مجهولة، في ظل مشاريع التطوير التي يتبعها السيسي في قلب القاهرة، بإزالة كل الآثار والأماكن التاريخية، بداعي التطوير، لبناء المقاهي والمتاجر والكباري والطرق الجديدة، قد تكون ضمنها مخصصات لبعض الحكومات العربية الراغبة في التوسع في شراء الأراضي والمباني المصرية، كالإمارات والسعودية.
إجماع عربي مريب
وكانت مصر قد أعلنت في إبريل الماضي، ترشيح وزير السياحة والآثار السابق، خالد العناني، لمنصب مدير عام “منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة” (اليونسكو)، للفترة ما بين 2025 و2029، وهي الخطوة التي زعم رئيس وزراء الانقلاب مصطفى مدبولي أنها تستند إلى ما سماها المؤهلات والإنجازات الأكاديمية والتنفيذية والإسهامات التي يحوزها العناني في مجالات العلوم والتربية والثقافة.
هذا الترشيح ستدعمه البلدان العربية التي اعتمد وزراء خارجيتها، الخميس الماضي، اختيار العناني مرشحا عربيا وحيدا للمنصب، وهو توافُق غير مسبوق؛ إذ شهدت العقود الماضية ترشيح أكثر من اسم عربي في وقت واحد، لكنه يحدث هذه المرة بينما تبدو حظوظ العناني ضعيفة للغاية، فالعناني، الذي تولى منصب وزير الآثار في 2016 ثم وزير السياحة والآثار من 2019 إلى 2022، ليس متخصصا في الآثار، وإنما تخرج في كلية السياحة والفنادق، وقد عُرف في مصر بـ “وزير شطب الآثار”، في إشارة إلى الإجراء الذي يستبق هدم المباني الأثرية والتاريخية أو بيعها، وهو ما عبر عنه في تصريحات صحافية سابقة، من بينها قوله: “هل من المفترض أن أترك بعض الحجارة لأنها مسجلة؟”.
واتخذ الوزير السابق عدة قرارات بشطب مبان أثرية من سجل الآثار بدلا من ترميمها، ومنها منزل عبد الواحد الفاسي، في حارة السبع قاعات القبلية بحي الموسكي في القاهرة، والذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن السادس عشر، والحمام العثماني الأثري في قنا، وهو أحد ثلاثة حمامات أثرية فقط موجودة في صعيد مصر، وقصر ميخائيل لوقا الزق في أسيوط، ومحطة القطار الملكية في كفر الشيخ.
بلدوزر السيسي
وفي السنوات الأخيرة، باتت عمليات إزالة المباني الأثرية تجري على قدم وساق، وشملت منطقة القاهرة الإسلامية المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث الإنساني منذ 1979، والتي من المقرر أن يُشرف جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للجيش على تنفيذ مخطط لـتطويرها، يشمل توسعة ورصف الطرقات بعد الانتهاء من إزالة المقابر، وإنشاء جسر جديد لتسهيل حركة المرور، تقع أسفله محلّات تجارية ستُطرح للإيجار، بالإضافة إلى ساحة كبيرة لركن السيارات مقابل رسوم.
وكانت السفيرة مشيرة خطاب قد خسرت أمام المرشحة الفرنسية أودري أزولاي لمنصب مدير عام اليونسكو عام 2017. وقد ترافق ترشح خطاب إلى المنصب مع حملة مداهمات واسعة لبعض المكتبات وإغلاقها ومصادرتها، كما حدث مع فروع مكتبتي “البلد” و”ألف”، فضلا عن التوسع في اعتقالات المعارضين لاتفاقية تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية عام 2017، والزج بمئات من أصحاب الرأي في السجون، وقبل ذلك، خسر وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني أمام البلغارية إيرينا بوكوفا عام 2009، ومدير مكتبة الإسكندرية”سابقا، إسماعيل سراج الدين، أمام الياباني كوشيرو ماتسورا عام 2001.
ومع انقلاب السيسي على التجربة الديمقراطية الأولى بالبلاد، فقدت مصر مكنتها الإقليمية والدولية، وخرجت من اهتمامات الفعاليات الثقافية والأدبية والعلمية، وبات الجميع ينتقد القمع والكبت والقهر السياسي والثقافي والاجتماعي المتفاقم في ظل حكم العسكر، وتبقى مخاطر ، تفريط السيسي في أصول مصر، وآثارها وتاريخها.