من أهم أسباب غلاء أسعار السلع الغذائية تآكل قيمة الجنيه المصري أمام الدولار في ظل اعتماد مصر على استيراد 65% من غذائها من الخارج؛ فقد تراجعت قيمة الجنيه المصري أمام الدولار من 8 جنيهات قبل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر 2016م إلى “30.95” جنيها في سبتمبر 2023م؛ وبذلك فقد الجنيه نحو 75% من قيمته؛ بمعنى أن كل جنيه في 2016 أصبح اليوم يساوي ربع جنيه فقط.
معنى ذلك أنه حتى في حالة ثبات الأسعار عالميا فإن الأسعارفي مصر سوف ترتفع 300% بفعل تراجع قيمة الجنيه. فلو كان هناك مستثمر يستورد زجاجة الزيت بواحد دولار فقط في 2016، فإن زجاجة الزيت بالمصري تساوي “8 جنيهات” وقد تصل إلى المستهلكين بنحو 12 جنيها. نفس الزجاجة حاليا يستوردها نفس المستورد بواحد دولار فقط، لكنه يحصل على الدلار من السوق الموازية بنحو “40” جنيها؛ وبالتالي فزجاجة الزيت تساوي بالمصري “40 جنيها” يضاف إليها مصاريف الشحن وأرباح المستورد ثم أرباح الوسطاء وتجار التجزئة لتصل إلى المواطن في النهاية بنحو “60 إلى 65” جنيها.
لا شك إذا أن فشل الحكومة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والسلع وعجزها عن حماية قيمة الجنيه أدى إلى كل هذه الكوارث؛ فتأثر أسعار السلع الغذائية بالأسعار العالمية ارتفاعا وانخفاضا مرهون باستقرار سعر صرف الجنيه وإتاحة الدولار وتوفر المواد الخام والقدرة على الاستيراد بشكل طبيعي دون معوقات. وحتى حين علّق السيسي على مشكلة سعر الصرف، في المؤتمر الوطني للشباب بالإسكندرية في يونيو 2023م، وقال “نحن مرنون في سعر الصرف.. لكن عندما يتعرض (سعر الصرف) لأمن مصر القومي وأن يضيع شعب مصر.. لا لا، لن نجلس مكاننا”، فهناك شبه إجماع على أن تصريحات السيسي دعائية قبل مسرحية الرئاسة المرتقبة بنهاية السنة، وأنه بمجرد الانتهاء من الانتخابات سوف يذعن كالمعتاد لإملاءات صندوق النقد ويقوم بتخفيض قيمة الجنيه دون النظر لأوضاع عشرات الملايين من الفقراء كما فعل من قبل دون اكتراث.
الاحتكار
السبب الثاني للغلاء هو تفشي ظاهرة الاحتكار في الأسواق المصرية، وأبرز مثال على ذلك البصل والأرز والسكر وغيرها، فهذه السلع تحقق مصر فيها الاكتفاء الذاتي، والإنتاج أعلى من الاستهلاك فكيف تشح في الأسوق وكيف ترتفع أسعارها كل هذا الغلاء الفاحش؟
قد يعزو البعض أسباب ذلك إلى توجه الحكومة نحو جمع المحاصيل وتصديرها من أجل توفير الدولار في الأزمة الخانقة التي يعاني منها النظام، لكن مافيا الاحتكار تحتل المرتبة الثانية في صدارة الأسباب التي تقف وراء جنون الأسعار بعد تآكل قيمة الجنيه أمام الدولار. وحسب النائب مجدي الوليلي، عضو المجلس التصديري للحاصلات الزراعية، فإن «ارتفاع سعر البصل ليس مربوطا بالتصدير»، منوهًا أن «الفلاح قلّص المساحات المخصصة لزراعة البصل واستبدلها بمحاصيل أخرى». وأضاف خلال مداخلة هاتفية لبرنامج «مساء DMC»، مساء السبت 23 سبتمبر 2023م، أن مصر صدرت 380 ألف طن بصل هذا العام، مشيرًا إلى أن «استهلاك الشعب المصري لا يتعدى 2 مليون طن».
ويعزو الدكتور علي عبد المحسن، رئيس قطاع الشئون الاقتصادية بوزارة الزراعة، أسباب غلاء البصل والسلع الغذائية إلى مافيا الاحتكار، مؤكدا أن مصر لديها اكتفاء ذاتي من البصل، وفائض يتم تصديره سنويا بنسبة تتراوح ما بين 10 إلى 15% من حجم الإنتاج. وأوضح خلال مداخلة هاتفية له ببرنامج «حضرة المواطن»، على قناة «الحدث اليوم»، مساء السبت 23 سبتمبر، أن مصر أنتجت حوالي 3 ونصف مليون طن، وما تم تصديره حتى الآن أقل من 400 ألف طن، منوها بأنه يتم استهلاك 3 ملايين طن من البصل سنويا في السوق المحلي، بمتوسط شهري حوالي 25 ألف طن. وأشار إلى أن التجار عقب حصاد المحصول، تم شراؤه من المزارعين بحوالي 6 جنيهات للكيلو جرام، تم تخزينه وتعطيش السوق؛ ليتم بيعه بأسعار مرتفعة. وشدد على أن هناك قلة من التجار اشترت البصل من المزارعين وتخزينه، نظرا لأنه سلعة قابلة للتخزين، وذلك من أجل احتكاره ومن ثم بيعه بأسعار مرتفعة جدا للمواطنين.
وفي تصريحات تلفزيونية لبرنامج «آخر النهار» مساء الجمعة 22 سبتمبر 2023م، عدد رئيس قطاع الشئون الاقتصادية بوزارة الزراعة، أسبابا أخرى للغلاء، موضحا أن النشاط الزراعي عالميا يخضع لما يسمى «النظرية العنكبوتية»، و«في موسم معين ترتفع أسعار بشكل كبير ومع توسع المزارعين في إنتاج الموسم اللاحق تنخفض الأسعار، فيحجم المزارعون بعد الانخفاض عن الزراعة؛ فترتفع الأسعار مرة أخرى. وفي تصريحات أخرى خلال مقابلة تلفزيونية لبرنامج «من مصر» مع الإعلامي عمرو خليل، المذاع عبر شاشة «CBC» مساء الثلاثاء 19 سبتمبر ــ «فإن إنتاج محصول البصل تراجع بمعدل لا يتجاوز 4% قياسا بالعام الماضي؛ نتيجة تقلص المساحات المزروعة 10 آلاف فدان». وهي نسبة صغيرة لا يمكن أن تتسبب في كل هذه الأزمة.
وأضاف أن سببا آخر لارتفاع أسعار الطماطم والبصل يرجع إلى ما يسمى «الفواصل العروية» والتي تتزامن مع انتهاء موسم العروة الصيفية وبداية الموسم النيلي حيث تمثل الفترة البينية بين الموسمين فجوة في الإنتاج؛ تنعكس على انخفاض المعروض في الأسواق وارتفاع الأسعار.وأشار إلى تراوح إنتاج الموسم الشتوي من محصول البصل حوالي 3.5 مليون طن سنويا، موضحا أن إجمالي الكميات المصدرة للخارج لا تتجاوز 500 ألف طن في مقابل توافر 3 ملايين بالسوق للاستهلاك المحلي، معقبا: «لدينا اكتفاء ذاتي من البصل وفائض حوالي 15% يجري تصديره للخارج».
وفي الأسابيع الأخيرة، بلغ سعر كيلو البصل نحو 30 جنيها فيما كان سعره “2.25” جنيها فقط في 2022م، بينما ارتفع سعر الطماطم من 4 جنيهات إلى نحو 20 جنيها، والأرز من 4 جنيهات في 2021 إلى 25 و30 جنيها في منتصف 2023م، وارتفع السكر مؤخرا إلى 40 جنيها للكيلو بينما كان سعره نحو 10 جنيهات فقط في 2022م.
وأعلنت وزارة الزراعة في بيانات سابقة أن مصر صدرت نحو 5.1 ملايين طن من الخضراوات والسلع الطازجة، بقيمة 2.6 مليار دولار، منذ بداية عام 2023 وحتى بداية أغسطس 2023م، فيما تستهدف الحكومة زيادة الصادرات الزراعية إلى 5.7 مليارات دولار خلال الموسم التصديري 2024/2023. ووصلت صادرات الحاصلات الزراعية إلى 6.5 ملايين طن بنهاية عام 2022، بقيمة 3.3 مليارات دولار وبزيادة نحو 800 ألف طن عن عام 2021.