منذ أكثر من 22 شهرا والشاغل الأول للمصريين هو تأثير نقص الدولار على بطء الحركة الصناعية والتجارية، وبالتالي زيادة أسعار السلع، إلا أن الطفرة التي شهدها سعر الصرف للدولار في السوق الموازية في الشهور الأخيرة وخاصة الشهر الماضي، قد نجم عنها أسعار غير مسبوقة تاريخيا للسلع والخدمات، واكبها رفع الحكومة لأسعار عدد من خدمات النقل والمواصلات والاتصالات والكهرباء والوقود.
وحاولت الحكومة من خلال أكثر من مبادرة توفير السلع الأساسية بأسعار تقل نسبيا عن أسعار السوق، لكنها فشلت جميعا في ظل الصعود المتتالي لسعر صرف الدولار في السوق الموازية، والذي لا يكتفي المستوردين والتجار بالتسعير به، بل إنهم يسعّرون على رقم أعلى منه تحوطا لزيادته خلال الأسابيع المقبلة، خاصة وأن البنوك لا توفر الدولار للقطاع الخاص للاستيراد بالأسعار الرسمية التي جمدها البنك المركزي إداريا منذ آذار/ مارس الماضي وحتى الآن.
ومن هنا فإن السؤال الأعم لدى غالبية المصريين إن لم يكن كلهم، إلى جانب السؤال الرئيس (متى يتم إيقاف الحرب في غزه)، هو إلى أين يتجه سعر الدولار وبالتالي أسعار السلع؟
الحكومة من جانبها تتبع أسلوب الصمت انصياعا لتعليمات الجنرال الذي يعطى لنفسه وحده حق الحديث العام في الأمور السياسية والاقتصادية والعسكرية، حتى محافظ البنك المركزي لم يظهر بالمرة لإعطاء أي تفسير أو طمأنه بعد اتساع الفارق بين سعر الصرف الرسمي وغير الرسمي للدولار (31 جنيها و72 جنيها)، خاصة وأن الرجل تم انتدابه للمنصب لمدة عام واحد تم تجديده مؤخرا، ولم يصدر له قرار تعيين لمدة أربع سنوات حسب نص قانون البنوك ومثل كل سابقيه في المنصب.
واكتفت الحكومة لملاعبة السوق الموازية للدولار ببث بعض التصريحات، من خلال إعلاميي القنوات الفضائية المملوكة للشركة المحتكرة للنشاط الإعلامي والفني والمملوكة لجهات سيادية، بأن هناك انفراجة قريبة لسعر الصرف من خلال حدث كبير سيتم خلال الشهور القليلة المقبلة، ولما استمر صعود الدولار في السوق الموازية رغم ذلك، فقد سربت أنباء عن بيع مساحات من الأراضي في الساحل الشمالي بمنطقة رأس الحكمة لمستثمرين خليجيين، بقيمة 22 مليار دولار، وواكب ذلك نشر أخبار عن مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لزيادة قيمة قرضه لمصر من 3 مليارات دولار إلى قيمة أكبر قد تصل إلى 8-10 مليارات دولار.
السوق الموازية مستمرة لعام على الأقل
وبالفعل تسببت تلك الأخبار حول بيع أرض رأس الحكمة وقرض الصندوق الذي قيل إنه ستواكبه قروض من مؤسسات ودول أخرى، في تراجع سعر الدولار في السوق الموازية من مستوى 73-75 جنيها إلى 65-67 جنيها، ومن هنا يظل السؤال: هل سيستمر دولار السوق الموازية الذي يتم به تسعير كافة السلع في الأسواق التجارية في التراجع؟
وتتطلب الإجابة التعرف على مكونات الطلب في السوق الموازية للدولار، فهناك طلب مشروع يتمثل في تمويل استيراد السلع الغذائية وغير الغذائية ومستلزمات الإنتاج في المصانع، كما تردد عن قيام جهات حكومية بشراء كميات منه لدفع الأقساط المستحقة من الدين الخارجي في مواعيدها، كذلك هناك طلب للتحوط من عدم وجود الدولار مستقبلا سواء لدى كبار المتعاملين أو صغارهم.
فهناك من يتحوط من أصحاب الشركات لتمويل استيراد مستلزمات الإنتاج وقطع الغيار مستقبلا، وهناك من يتحوط لتدبير نفقات تعليم أولاده في الخارج، وآخرون لتدبير نفقات الحج أو العمرة أو العلاج في الخارج أو شراء الدواء، أيضا من أنواع الطلب؛ الطلب للمضاربة لتحقيق أرباح رأسمالية من زيادة السعر عند البيع عن السعر الأقل الذي تم الشراء به من قبل، إلى جانب الطلب لتمويل أغراض غير مشروعة كاستيراد المخدرات بأنواعها وهو سوق كبير طلبه بالمليارات، واستيراد السلاح في ظل تنافس العائلات في جنوب البلاد على اقتناء أكبر كمية منه في ظل الخلافات الثأرية التاريخية، كذلك الطلب لتمويل تهريب السلع والذي ينشط كلما زادت معدلات الرسوم الجمركية، وهو سوق متعدد السلع أبرزها الأقمشة والتلفونات المحمولة والملابس وأدوات التجميل والمستحضرات الطبية وغيرها.
وفي ضوء استمرار عدم تمويل البنوك لشراء الشركات الصناعية للمواد الخام ومستلزمات الإنتاج سيظل هذا الطلب قائما، وكذلك الطلبات صغيرة القيمة للدراسة والعلاج، وبالطبع تمويل الأنشطة غير المشروعة، ليصبح الطلب الوحيد الذي سيتأثر بأنباء بيع أرض رأس الحكمة وقرض الصندوق والمؤسسات المالية الأخرى، هو الطلب للمضاربة والذي يتريث كبار المتعاملين به في قرارتهم، بينما يسارع الصغار وقليلو الخبرة منهم للمسارعة في التخلص مما لديهم من دولارات للحفاظ على مكاسبهم او خشية الخسارة.
ومن هنا فالسوق الموازية للدولارية مستمرة لعدة شهور حتى بعد قيام البنوك بتمويل كامل طلبات الاستيراد، وحتى يثق السوق من أن البنك المركزي أصبح لديه فائض كبير من الدولار، يمكنه به الدفاع عن السعر المرتقب الذي سيحدده خلال الأسابيع القليلة المقبلة. ونرى أن السوق الموازية مستمرة على الأقل لنهاية العام، لأن حجم مشكلة نقص الدولار أكبر كثيرا من الموارد المتوقعة من قروض الصندوق والمؤسسات المالية الأخرى وقيمة أرض رأس الحكمة.
رفع الفائدة لن يجلب أموالا ساخنة
فهناك أقساط ديون خارجية تبلغ أكثر من 42 مليار دولار في العام الحالي، وعجز دولاري في الجهاز المصرفي تخطي 27 مليار دولار حتى نهاية العام الماضي، واحتياجات لتمويل الاستيراد السلعي لا تقل عن سبعة مليارات دولار شهريا، بخلاف احتياجات لتمويل تحويل أرباح الشركات الأجنبية للخارج، وكذلك الواردات الخدمية من خدمات نقل وسياحة وتعليم وتدريب وصحة وترفيه وتشييد وخدمات مالية وتأمينية بالخارج.
سيقول البعض: ولكن البنك المركزي قد رفع سعر الفائدة بنسبة 2 في المائة قبل أيام لتصل إلى 21.25 في المائة، ألا يساهم ذلك في جذب قدر من الأموال الساخنة لتعزيز الموارد الدولارية مؤقتا؟ والرد على هؤلاء أن الفائدة على أدوات الدين الحكومي قد بلغت 27 في المائة مؤخرا، ومع ذلك لم تأت أموال ساخنة ملحوظة، لأن معدل الفائدة الحقيقي ما زال سلبيا بالقياس إلى معدل التضخم، كما أن بنك الاحتياط الفيدرالي ما زال محتفظا بفائدته المرتفعة ونفس الأمر للبنك المركزي الأوروبي والمركزي البريطاني، إلى جانب وجود فائدة أعلى في دول أخرى مثل تركيا والتي بلغت 45 في المائة.
ويظل السؤال الرئيس لدى عموم المصريين خاصة أصحاب الدخل الثابت من الموظفين وأصحاب المعاشات: هل يمكن أن تنخفض الأسعار في ظل تراجع سعر الدولار في السوق الموازية مؤخرا؟ وهنا نشير إلى أن طبيعة السوق الموازية تجعله أكثر حساسية للأحداث الاقتصادية، ولهذا من المتوقع عندما تتم صفقة أرض رأس الحكمة أو إعلان الاتفاق على قرض أكبر قيمة من صندوق النقد الدولي، أن يحدث تراجع سعري فيه لكن ليس حادا.
وربما تلجأ الحكومة إلى أساليب أخرى، مثلما توسعت في الإجراءات البوليسية تجاه حائزي الدولار للتخويف، رغم أن القانون لا يجرّم حيازة الدولار ولكن يجرّم التعامل به خارج القنوات الرسمية فقط، أو اتخاذ إجراءات تجاه تجار الذهب مثلما قامت بوقف تسعيره أكثر من مرة في سابقة تاريخية، للمساعدة على بث الذعر في الأسواق مما يدفع الكثيرين للمزيد من حيازة الذهب كملاذ آمن.
لكن الواقع العملي يشير إلى أن الأسعار في مصر لا تعود للوراء، والمبرر لدى التجار عادة أنهم اشتروا البضاعة بأسعار عالية، أو أنه ما زال لديهم مخزون تم شراؤه بأسعار عالية، إلى جانب ما يدفعونه من إتاوات ورشاوى لأشخاص عاملين في جهات رسمية بصورة غير قانونية، وارتفاع أسعار نقل البضائع وأسعار الوقود والكهرباء والعمالة، هذا بخلاف زيادة أسعار شحن البضائع من الخارج بعد أحداث باب المندب، وابتعاد كثير من السفن عن السير بالبحر الأحمر واتخاذ مسارات أخرى أعلى تكلفة.
وما يمكن توقعه أن تقوم الدولة من خلال منافذ البيع التابعة للجهات الرسمية من مجمعات استهلاكية تابعة لوزارة التموين، ومنافذ بيع تابعة لوزارات الزراعة والدفاع والداخلية وشوادر للغرف التجارية في المحافظات، لبيع بعض السلع الأساسية بأسعار أقل نسبيا عن الأسعار السائدة في الأسواق، لكن ضمان استمرار توافر تلك السلع بتلك الأسعار غير مضمون، في ضوء سعر صرف رسمي جديد مرتقب سيرفع تكلفة السلع المستوردة.
ورفع البنك المركزي لسعر الفائدة مما زاد من تكلفة التمويل على الشركات الإنتاجية والتي ستحمّلها بالطبع على أسعار السلع التي تنتجها، وهي الفائدة التي تزيد من عجز الموازنة مما يدفع وزارة المالية لخفض الدعم السلعي، سواء بسبب كبر قيمة العجز أو استجابة لمطلب صندوق النقد الدولي خلال فترة سريان الاتفاق الجديد معه.