انتابت حالة من الغضب والقلق الشديد العديد من طوائف الشعب المصري بعد نشر صور على مواقع التواصل الاجتماعي تبين منها شروع قوات الأمن بهدم مقابر جبانة باب النصر التاريخية، التي تضم عددا من المدافن يصل عمر بعضها لأكثر من ألف عام، وبها أكثر من 2600 مقبرة تاريخية، تتضمن حوش عائلة السحار، وقبر بوركهارت الواقع في مقابر الصوفية، ومسجد نجم الدين، وقبة يونس السعدي، وقبة زينب، بدعوى توسعة الطرق وإنشاء محور الفردوس لمواجهة الأزمات المرورية في القاهرة.
وتحت عنوان “أنقذوا جبانة باب النصر”، كتب الباحث المهتم بالتراث ميشيل حنا، قائلا: “يجري الآن هدم جبانة باب النصر لبناء كراج للسيارات، وهي واحدة من جبانات مصر التراثية الفريدة، وعمرها من عمر إنشاء مدينة القاهرة”.
وأضاف حنا عبر صفحته على فيسبوك: “تتميز جبانة باب النصر بوجود عدد كبير من المقصورات الخشبية التي تحيط بالأضرحة، ولا يوجد لها مثيل على مستوى العالم”، على حد تعبيره.
الانقلاب يهدم التاريخ
للمقابر أهمية ومكانة خاصة في وجدان المصريين على مدى التاريخ الطويل، إلا أن حكومة الانقلاب تطيح بكل ما هو تاريخي.
ويقول الدكتور خالد عزب خبير الآثار: “الآن مصر تزيل حقبة كاملة من تاريخها بإزالة مئات المقابر التي هي حلقة في تاريخ تطور عمارة المقابر منذ عصور ما قبل التاريخ إلى الآن، فالمقابر في مصر لم تكن مكانا لدفن الموتى بقدر ما هي تعبير عن الرغبة في حياة أبدية سعيدة في العالم الآخر، لذا صار للموت قدسية وحرمة في مخيلة المصريين، وصار للموت فلسفة في حياة المصريين، وحين تقوم بإزالة مقابرهم فأنت بذلك تجرح هذه المخيلة وتعرض نفسك للسخط واللعن”.
ويستطرد عزب قائلا، في تصريحات صحفية: “القضية هنا أيضا ترتبط بأن المشاهير والأعلام من المصريين دفنوا منذ الفتح العربي إلى الآن”.
جبانة باب النصر
الباحثة في التاريخ المصري، سالي سليمان، مؤسسة مدونة البصارة لتوثيق التراث، أوضحت من جانبها أن جبانة باب النصر هي المقبرة التاريخية والرئيسية للقاهرة، منذ تأسيسها في القرن العاشر، وهي الجبّانة الأهم لسكان المدينة القديمة سواء من القاهريين أو أبناء المحافظات الذين استقروا في القاهرة وأنشأوا مقابرهم في «باب النصر» بأسماء قراهم في الصعيد والدلتا، وكذلك المتمصرين من أبناء الجاليات العربية والأجنبية، مثل مقابر الشوام وغيرهم.
وقالت سليمان: إن “الجبانة تضم على سبيل المثال مقبرة الرحالة السويسري يوهان لودفيك بوركهارت، الذي أشهر إسلامه وغيّر اسمه إلى الشيخ إبراهيم، وهو مكتشف معبد أبو سمبل في جنوب مصر، والبتراء في الأردن، وعاش في مصر، ووافته المنية شابا، وكرّمه أهل القاهرة بدفنه بين موتاهم، وتركيبة مقبرته من التركيبات الرخامية النادرة، فضلا عن كون مقبرته تحت إشراف السفارة السويسرية”.
وأضافت، إن جبّانة باب النصر طبقات فوق طبقات، واكتشافاتها لا تنتهي، كما أن مقابرها تتميز بالمقاصير الخشبية الذي ذهب أغلبها بفعل الإهمال، لكن لا يزال بعضها موجودا، ويحتاج إلى اهتمام وترميم وليس الهدم والإزالة.
وأوضحت سليمان أن جبانة باب النصر تعد مقصدا للعديد من السياح العرب والأجانب للتعرف على التراث الجنائزي المصري الحديث، تماما مثل الذين يقصدون المقابر الفرعونية، للوقوف على تراث الموتى في التاريخ المصري القديم.
وأضافت: «أنا مرشدة سياحية وفيه مجموعات بتيجي مخصوص تطلب زيارة باب النصر بسبب فرادتها، ومنهم متخصصين في الخط العربي وباحثين في التصوف وأعلامه، وكفاية إننا خسرنا قبل كده مقبرة ابن خلدون اللي راحت في توسيع شارع البنهاوي الرئيسي بين المقابر وسور القاهرة، في الوقت اللي الأسبان والمغاربة قالبين الدنيا علشانه».
وأزالت محافظة القاهرة سابقا عددا كبيرا من المقابر التاريخية بمنطقة جبانات الإمام الشافعي، تحت مزاعم تطوير منطقة السيدة نفيسة، علما أنها خاضعة لقانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983، الذي يُجرّم أي عمل يتلف أو يهدم أثرا.
كما شهدت مصر في 2021 هدم جزء من منطقة جبانة المماليك، التي تضم مقابر تاريخية وآثارا إسلامية تعود إلى نحو خمسة قرون، ومنها مقابر مصنفة تراثا عالميا لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، في إطار مخططات حكومية لتوسعة شبكات الطرقات الرابطة ما بين مناطق القاهرة والعاصمة الإدارية الجديدة، وإنشاء جسر مروري تحت اسم “الفردوس”.
10 قرون
ومقابر القاهرة التاريخية من أهم المعالم التراثية التي تتمتع بها العاصمة المصرية، ويرجع تاريخ إنشائها إلى أكثر من عشرة قرون مضت، وتحتوي على رفات العديد من الشخصيات المهمة في التاريخ الإسلامي، فضلا عن كونها تعكس تصاميم معمارية نادرة، وزخارف تعبر عن مراحل هامة في تاريخ المعمار المصري.